المادة    
يمكن أن نستعرض قبل نهاية هذه الحلقة الطيبة المباركة إن شاء الله قضية تاريخية, وهي متى وجد عصر الخليل عليه السلام؟
الذي يظهر وتكاد تجمع عليه الآثار والبحوث التاريخية وغيرها أن إبراهيم عليه السلام كان في القرن الثالث قبل الميلاد، أي: قبل المسيح عليه السلام أو قبل التاريخ الميلادي بألفي عام؛ ما بين (2000) إلى (2100) إلى (2200) أو نحو ذلك، وبمعنى آخر: أن ما ذكره بعض علماء المسلمين مثل أبي الفداء وغيره أنه صلوات الله وسلامه عليه كان قبل الهجرة بنحو (2800 سنة), يمكن أن يكون صحيحاً أو مطابقاً، وليس هناك أي علم ثابت في هذا.
إنما الذي يمكن أن يقال: إن هناك حقائق ثابتة في التاريخ, ويمكن أن تقارن بالحقائق الثابتة في القصص أو الكتب الدينية؛ وهو أنه قريب العصر من عصر حمورابي, والذي يقول البعض: إنه أمورافل, والبعض يقول: إنه حمورابي , والبعض يجعلهما شخصيتين, وهذه خلافات تاريخية لا نهاية لها؛ لكن هذا الرجل المشهور حمورابي صاحب الشريعة المشهورة يمكن أن يكون هناك تقارب في المدة بينه وبين الخليل إبراهيم عليه السلام.
بالنسبة لاسم الملك الذي حاج إبراهيم عليه السلام لا يهمنا كثيراً؛ لكن يهمنا أن إبراهيم عليه السلام وقف وقفة إيمانية قوية صادقة في وجه ملك عتي جبار متسلط، كما هو واضح، وكذلك أنجاه الله تبارك وتعالى من تسلط فرعون, كما ثبت في الحديث الصحيح في قصته مع سارة .
فهذه المدة وهذا الزمن نستطيع أن نقول: إن أهم ما فيه هو أن إبراهيم عليه السلام كان متوسطاً تقريباً بين عصرين عظيمين من عصور التوحيد، وجاء هو ليكون رأس العصر الثالث وهو الإمام الذي يتبعه من بعده.
العصر الأول من عصور التوحيد هو: ما بين آدم عليه السلام إلى وقوع الانحرافات والشرك في قوم نوح, وهذا واضح لا إشكال فيه.
أما العصر الثاني من عصور التوحيد فهو: العصر الذي هو بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: التوحيد الأول والتوحيد الآخر.
هذا التصور الإسلامي الفريد العجيب للتاريخ لا يوجد لدى أهل الكتاب, ولا يوجد لدى غيرهم من الأمم، إلا تشويهات عند النصارى : أن المسيح قد ينزل أو لا ينزل أو ما أشبه ذلك، المقصود: أن البشرية مرت بعصر توحيد طويل جداً, جاء إبراهيم عليه السلام بعد أن غرقت في الوثنية التي وقعت من بعد انحراف الأقوام من بعد الطوفان، فالتوحيد القديم من خلق آدم عليه السلام إلى بعثة نوح عليه السلام أو وقوع الشرك في قومه؛ هذه آماد لا يعلمها إلا الله, حقبة طويلة لا يعلمها إلا الله, كلها على توحيد الله, وعلى شهادة أن لا اله إلا الله، ولم يكن فيها أي شائبة شرك, حتى وقع الشرك فابتدأت الرسل وأولهم نوح عليه السلام لإنذار الخلق عن ذلك، هذا جانب.
التوحيد العظيم الذي يأتي في آخر الزمان هو من بعد محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة, ويكون وجود المسيح عليه السلام تبعاً لهذا النوع -لأنه يأتي بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما سنوضح إن شاء الله- وبينهما في فترة احتدام واشتداد الوثنية العظيمة, وعمومها على معظم التاريخ العالمي والبشري والأرضي تكون بعثة إبراهيم عليه السلام كسراج منير وقدوة وإمام مضيء لكل من جاء بعده, ولكل من يدعيه من الأمم، بأنه نموذج ومثال لعبادة الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له.