وهذا الكلام يهدم فصولاً كثيرةً، فلو أن أحداً قرأ كلام
الحافظ رحمه الله وفقهه لرد كل ما تقدم من كلام السلف وإجماعهم وشرحهم وقولهم بحقيقة الإيمان، و
الحافظ رحمه الله قال في أول كلامه: (السلف قالوا: الإيمان اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان)، فجعله ثلاثة أركان، ثم تناقض فجعله ركنين وشرطاً، وكأنه أراد أولاً أن يقول: إنه ركنان وشرط، ثم في النهاية جعله ركنين وشرط كمال فقط حتى يتخلص من مسألة التكفير. ويمكن أيضاً أن يفهم من كلامه أن الفرق بين
المرجئة والسلف أن
المرجئة قالوا: اعتقاد ونطق، والسلف قالوا: اعتقاد ونطق وعمل.فالفرق بينهم أن السلف زادوا العمل، ولما زادوه جعلوه شرط كمال، هذا الفرق بين السلف و
المرجئة عند
ابن حجر على كلامه رحمه الله. ثم جاء في المشكلة الأخرى يريد أن يتخلص من مشابهة السلف
للخوارج و
المعتزلة ، فهؤلاء قالوا: نطق وعمل واعتقاد، وهؤلاء قالوا: نطق وعمل واعتقاد، فما المخرج؟ يقول: إنه شرط عند الجميع، وذلك حتى لا يدخل في الماهية، ولكنه عند
المعتزلة و
الخوارج شرط صحة، فلا يصح الإيمان إلا بالعمل، أما السلف فالعمل عندهم شرط كمال، فيمكن أن يكون الإيمان من غير عمل؛ لأنه مجرد كمال، وإذا كان شرط كمال فهو يزيد وينقص، فما وقع من زيادة أو نقص ففي شرط الكمال وليس في ذات الماهية.وهذا كلام يخالف كل ما قد تقدم من الشرح، ولو نظر أحد من الناحية المنطقية نظرة عقلية مجردة لوجد أن تعريف السلف بهذه الطريقة -في الحقيقة- هو أقل الثلاثة حظاً من النظر العقلي؛ لأن
المرجئة لما قالوا: هو القول والإقرار جعلوه ركنين، و
المعتزلة جعلوه ثلاثة أركان، أما أن يكون التعريف الذي قاله السلف ركنين وشرطاً فهذا فيه غرابة. والصواب أن عبارة السلف: (الإيمان قول وعمل) فهمها الصحيح أن تفهم بالتقسيم الرباعي، فهي تشمل القول الظاهر والباطن، والعمل الظاهر والباطن، ومن فهم غير ذلك فإنه لا بد له من أن يخطئ ويرتبك ويخالف النصوص، ويقع فيما وقع فيه هذا الإمام الحبر العلامة رحمه الله على سعة علمه، فهذا عندما يتكلم في أي باب من أبواب العلم تجده بحراً، بل إنه لما تكلم في موضوع الإيمان جاء بالكلام الذي تم إيراده أو بكثير منه، وبالكتب التي ذكرته، ونقل الإجماعات التي سبقت، لكنه رحمه الله تابع شراح الحديث الذين يعتقدون العقيدة
الأشعرية ، وكثير من المتأخرين يعتقدون ذلك، ومنهم القاضي
عياض و
النووي في
شرح صحيح مسلم ، وكذلك
ابن بطال وغيرهم، فـ
ابن حجر رحمه الله مع سعة علمه وفضله وتعمقه واطلاعه على السنة وافق هؤلاء واتبع كلامهم، وظن أنه بتخريجه هذا قد أتى بقاعدة صحيحة وسليمة، ولم يبق أي مدخل أو منفذ لأن ينتقد مذهب السلف أو يطعن فيه بأي وجه من الوجوه.