المادة    
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد ذكر العبارات السلفية المتنوعة في بيان حقيقة الإيمان، التي زيد فيها على عبارة (قول وعمل).
(وليس بين هذه العبارات اختلاف)، يعني أن الاختلاف إنما هو لفظي تعبيري فقط، أما من حيث المعنى فكلام السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم كله واحد، ولا يؤدي إلا إلى واحد.
يقول: (ولكن القول المطلق والعمل المطلق في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح).
إذاً: هم لا يقصدون قول اللسان دون قول القلب، ولا يقصدون أيضاً عمل الجوارح دون عمل القلب، فإذا قالوا: قول وعمل؛ فإنما يريدون قولاً باللسان مع قول القلب، وعملاً بالجوارح مقترناً به عمل القلب.
يقول: (فقول اللسان بدون اعتقاد القلب هو قول المنافقين، وهذا لا يسمى قولاً إلا بالتقييد، كقوله تعالى: (( يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ))[الفتح:11]) فلا يطلق عليه القول إلا مقيداً؛ لأن الإنسان إذا قال قولاً فالأصل أن يكون هذا القول باللسان معبراً ومطابقاً عما في القلب حقيقة، لكن قد ينفصلان، فيقول الإنسان قولاً والقلب بخلافه، وهذا حال المنافقين. ويتقابل في هذا الكرامية و الجهمية ، فـالكرامية يقولون: إن الإيمان هو القول باللسان فقط دون قول القلب ودون عمل القلب، والجهمية -وتتبعهم الأشاعرة - جعلوا الإيمان هو المعرفة أو التصديق بالقلب فقط، وهذان قولان متقابلان، فالسلف الصالح لا يريدون هذا ولا ذاك، وإنما إذا قالوا: (قول) فإنما يقصدون به قول القلب وقول اللسان؛ لأن الظاهر والباطن متلازمان عند أهل السنة والجماعة ، وعند أهل العقول السليمة لا بد من أنه إذا تحقق الظاهر يتحقق الباطن، وإن كان في الواقع -كما هو حال المنافقين- قد يفترقان، لكن من حيث الشرع لا بد من أن يتطابقا.
ومن الأدلة على ذلك حديث جبريل عليه السلام، ففيه دلالة على ضرورة تلازم الظاهر والباطن، فقوله: ( أتاكم يعلمكم دينكم ) يقصد به المراتب الثلاث، وأما كونه ظاهراً وباطناً فلأن أركان الإيمان أعمال باطنة، وأركان الإسلام أعمال ظاهرة، ولا يمكن لأحد أن يصلي ويصوم ويحج وهو غير مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولا يمكن لأحد أن يترك شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة والصيام والحج ثم يقول: أنا مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
فهما متلازمان، لكن عمل القلب أفضل وأعلى، فأصل الدين وأصل الإيمان هو ما في القلب، وهو الإيمان الباطن.
قال رحمه الله تعالى: (وكذلك عمل الجوارح بدون أعمال القلوب هي من أعمال المنافقين التي لا يتقبلها الله، فقول السلف يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر).
ثم قال: (وكذلك قول من قال: اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح) يعني من قال من العلماء ومن السلف: إن الإيمان هو هذه الثلاثة: اعتقاد بالقلب وقول باللسان، فقد (جعل القول والعمل اسماً لما يظهر، فاحتاج أن يضم إلى ذلك اعتقاد القلب) وهو الإيمان الباطن، فقال: يضاف إلى إقرار اللسان وإلى عمل الجوارح اعتقاد بالجنان، أي: الإيمان الباطن، بمعنى أنه لا بد من أن يدخل في قوله: (اعتقاد القلب) أعمال القلوب، فالاعتقاد هنا لم يعد وفق التقسيم الرباعي خاصاً بالقول فقط أو بالإقرار فقط، بل على التقسيم الثلاثي يكون قولهم: (اعتقاد بالقلب) شاملاً للعمل الباطن كله، أي: شاملاً لقول القلب الذي هو إقراره وتصديقه، ولأعمال القلب أيضاً.
قال: (ولا بد أن يدخل في قوله (اعتقاد القلب) أعمال القلب المقارنة لتصديقه، مثل حب الله وخشية الله والتوكل على الله ونحو ذلك).
فلا يظن بالسلف الصالح والفقهاء من العلماء الذين ذكروا هذه العبارة إلا هذا، وأنهم غير خارجين عن القسمة الرباعية، لكنهم لما ظنوا أن القول والعمل إنما هو القول الظاهر والعمل الظاهر جعلوا الثالث هو الاعتقاد الباطن، فهو شامل لقول القلب وعمله.
ثم قال: (فإن دخول أعمال القلب في الإيمان أولى من دخول أعمال الجوارح باتفاق الطوائف كلها)؛ لأن أصل الإيمان إنما يكون في القلب، وهو مكان كتب الإيمان، كما قال تعالى: (( أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ ))[المجادلة:22].
فمحل الإيمان في الأصل هو القلب، فإذا كتب في قلب أحد أثمر قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح، ومن هنا ضل وأخطأ الأشاعرة وقبلهم الجهمية حين ظنوا أن التأكيد على أهمية القلب وعلى أنه محل الإيمان معناه أن العمل الظاهر وأن قول اللسان ليس من الإيمان، فنقول: هذا لا ينافي ذلك، فالأصل لا شك في أنه هو القلب، لكن هذا لا ينافي ما يلازمه من العمل بالجوارح، فمن قال من السلف: إن الإيمان قول وعمل أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح.
وقد ذكر المعلق في هامش كتاب الإيمان فقال: (وعلى هامش النسخة الهندية: وقول القلب: هو إقراره ومعرفته وتصديقه، وعمله: هو انقياده لما صدق به) وهذه الزيادة مهمة توضح المقصود، أي: تفرق بين قول القلب وعمل القلب، فقول القلب هو الإقرار، وعمل القلب: هو الإذعان والانقياد لما أقر به.
فمن حصل منه مجرد الإقرار ولم يأت بالإذعان فإنه لا يكون مؤمناً كما في حديث الحبرين من اليهود ، فإنهما لم يذعنا ولم ينقادا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن شهدا بقلوبهما وألسنتهما بأنه حق، فمن لم يحمله هذا القول وهذه الشهادة -وإن كانت صادقة في الباطن- على الانقياد والإذعان فليس بمؤمن.
فهناك نسبة -كما يقول المناطقة وأشباههم- وهناك عمل يترتب عليها، فنسبة الخبر إلى الصدق أمر، ولكن لا بد من أمر آخر، وهو إنفاذ وامتثال مضمون الخبر، والعمل بمضمون الخبر، فلا يكفي مجرد هذه النسبة -وهي: اعتقاد صدق المخبر- في إثبات الإيمان، فالرجل الذي يكتفي باعتقاد أن القرآن حق، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حق وصادق، ولم يزد على ذلك الانقياد والامتثال لهذا الحق والعمل به لا يكون مؤمناً، ولا يعد في حساب المؤمنين.
ولهذا إذا وجدنا كلاماً لأحد المستشرقين يثني فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن وعلى الإسلام وعلى حضارته وعلى علومه، وأقر فيه بأن هذا الدين حق وأنه وحي وأنه من عند الله، وما ترك ما هو عليه؛ فإنه يعد كافراً ظاهراً وباطناً، وليس في هذا شك؛ لأنه لم يقل ذلك على سبيل الانقياد والإذعان، وإنما هو صادق في القول عندما قال: هذا الدين حق، فهو صادق في التعبير عما في نفسه، لكن هذا الصدق في القول لم يتبع الانقياد والإذعان والامتثال، فلا يعد إيماناً بأي حال من الأحوال. ‏
  1. تفسير ابن القيم لمعنى القول والعمل في الإيمان

  2. بيان ابن القيم انتفاء الإيمان بانتفاء عمل القلب

  3. بيان ابن القيم لظاهر الإيمان وباطنه

  4. بيان الحافظ ابن حجر معنى كون الإيمان قولاً وعملاً يزيد وينقص

  5. تعقب كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله