ويزداد الكلام وضوحاً بكلام عالم بحر علامة فهامة لا يمكن أن يجادل أحد في علمه وتبحره وسعة اطلاعه، وهو الحافظ
ابن حجر رحمه الله تعالى، فالحافظ
ابن حجر رحمه الله في
فتح الباري شرح قول
البخاري رحمه الله عن الإيمان: وهو قول وعمل يزيد وينقص، فقال: (فأما القول فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح؛ ليدخل الاعتقاد والعبادات، ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى)، فالقول هو نطق الشهادتين، وهذا لا إشكال فيه، وأما العمل فيقول: (المراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح؛ ليدخل الاعتقاد والعبادات)، لكنه لما لم يتفطن لحقيقة معنى كلام السلف قال: (مراد من أدخله أو من نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله)، بمعنى: النظر إلى المآل وإلى أحكام الآخرة. قال: (فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان). فـ
الحافظ رحمه الله أراد أن يشرح عبارة (قول وعمل) فشرحها بالعبارة الثلاثية، فالتبس عليه الأمر بين الكلمتين. قال: (وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله)، أي: أرادوا بقولهم: اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، أن الأعمال شرط في كماله، وهذا أول مدخل لخطأ كبير. ثم قال: (ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقص) يعني قول السلف: الإيمان يزيد وينقص؛ لأنهم اعتبروا الأعمال شرطاً في كمال الإيمان، والأعمال تزيد وتنقص، لكن إذا قال: لا إله إلا الله، فهذا قول لا زيادة فيه ولا نقص، وإذا اعتقد بقلبه فكذلك الاعتقاد ليس فيه زيادة ولا نقص، هذا في نظر
الحافظ رحمه الله، فوقع فيما قرره المرجئة -ومنهم
مرجئة الفقهاء - وهو لا يشعر؛ لأنه جعل الأعمال هي أعمال الجوارح فقط أولاً، ثم جعلها شرط كمال فقط، وقال: (وبناءً على ذلك قالوا: إن الإيمان يزيد وينقص)، ففسر كلام السلف بالزيادة والنقصان بهذا الاعتبار فقط.قال: (و
المرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط) وهو بهذا يعني
مرجئة الفقهاء ؛ لأنه لا بد من أن يفرق بينهم وبين الغلاة. قال: (و
الكرامية قالوا: هو نطق فقط، و
المعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد ومعهم كذلك
الخوارج)، فكأن كلام
الخوارج و
المعتزلة هو كلام السلف. ثم قال
الحافظ رحمه الله: (والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته) وهنا وقع في خطأ كبير، فهو يقول: إن
الخوارج و
المعتزلة جعلوا الأعمال شرطاً في صحة الإيمان (والسلف جعلوها شرطاً في كماله، وهذا كله -كما قلنا- بالنظر إلى ما عند الله تعالى) وهذا أيضاً من أسباب الخطأ كذلك، فلو أنه قال: فالنظر إلى حقيقة الإيمان بغض النظر عن المعين منه ما وقع في هذا رحمه الله، لكنه قال: إنه بالنسبة إلى ما عند الله، وهو بهذا يعني أحكام الآخرة. قال: (أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط)، وأحياناً يؤتى العالم على فضله وعلى سعة علمه من مثل هذا الفهم. قال: (فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم عليه بالكفر) مع أن
الحافظ نفسه من أكبر علماء الحديث الذين يجمعون الطرق، ألم يشرح حديث: (
أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إلا الله ) وغيره؟! فهل اكتفى صلى الله عليه وسلم بالإقرار أم قال: (
حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ) ؟!فالعمل مطلوب هنا ومطلوب هنا، فانظر كيف وقع رحمه الله! قال: (فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا، ولم يحكم بكفره إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره، كالسجود للصنم):إذاً: لا نحكم بكفر أحد إلا إذا عمل عملاً مكفراً، كالسجود للصنم، أما إذا أتى بالإقرار فقط ولم يأت بعمل الجوارح -إذ عمل الجوارح ما هو إلا شرط كمال- فإنه -في الحقيقة- يعد مؤمناً، ولا نحكم بكفره إلا إذا رأيناه يعمل عملاً من أعمال الكفر التي لا تحتمل التأويل، كأن نراه يسجد للصنم!