يقول المصنف: (ومن عرف هذا عرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (
إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله تعالى ) -والحديث متفق عليه- وقوله: (
لا يدخل النار من قال: لا إله إلا الله ) )، وما جاء من هذا النوع من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس.يقول المصنف: إذا عرفنا أن المهم والفارق هو تفاوت نور لا إله إلا الله في القلوب، عرفنا بذلك معنى كثير من هذه الأحاديث التي أشكلت على بعض الناس، كيف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله )؟ هذا ليس لأي أحدٍ، وليس أي قائل لـ: لا إله إلا الله أن ينال ذلك، إنما هناك شرط عظيم لتقبل وهو أن يقولها خالصاً لوجه الله، فإذا نظرنا -مثلاً- إلى حديث: (
من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة )، وحديث: (
إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله )، لعلمنا أن حديث: (إن الله حرم على النار) أقوى وأرجى؛ لأن الوعد بدخول الجنة قد يكون بعد دخول النار، لكن حرم على النار، أي: أنه لا يدخل النار بإذن الله تعالى. إذاً هناك تفاوت بين أصحاب هذا الوعد، فمن وصل حاله إلى أن الله تبارك وتعالى يحرم عليه دخول النار، فهذا معناه أن نور لا إله إلا الله في قلبه أقوى من كل شهوة ومن كل شبهة، فهو في الدرجة العليا التي بها استحق ذلك، فقوله: (خالصاً) قيد ثقيل عظيم، فهل كل من قال: لا إله إلا الله يقولها خالصاً؟ لا، إذاً ما أدراك أنك حققت ذلك، أو ما أدرى من يقول: إن هذه مجرد أحاديث رجاء؟ نعم هي رجاء لكنها مقيدة بهذه القيود العظيمة، فالرجاء إنما يكون لمن يستحقه، ولذلك فبعض الناس أشكل عليه فهم هذه الأحاديث، ولذلك قال المصنف رحمه الله: (حتى ظنها بعضهم منسوخة، وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي)، ولذلك لنا وقفة هنا لا بد أن نقفها، وهي أنا كثيراً ما نجد مثل هذه العبارات، وربما تلتبس أو يساء فهمها، وهي أن يقال: إن ما افترض الله سبحانه وتعالى، أو ما ذكره الله سبحانه وتعالى، أو ما وعد الله به عباده من الخير، مثل: (
ومن قال: لا إله إلا الله دخل الجنة )، إن هذا كان قبل نزول الأوامر والفرائض، فبعض السلف أجابوا بهذا وهو منقول في كثير من كتبهم، فماذا يقصد السلف بذلك؟ إن كان المقصود أن رجلاً ترك الصلاة، ثم يقول لك: أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنا من أهل الإسلام، فقال له رجل: إن هذا كان قبل نزول الفرائض، أي: قبل أن تشرع الصلاة لم يكن مطلوباً من الخلق أن يصلوا، وإنما كان المطلوب فقط هو التوحيد والإيمان بالله سبحانه وتعالى، فنقول: نعم مثل هذا يأتي في كلام السلف، لكن لا يصح أن يفهم أيضاً خطأ أن الإيمان قبل نزول الأوامر والنواهي كان هيناً سهلاً خفيفاً -فهذه قد تفهم- فيكون معنى ذلك: أن أول ما نزل الإيمان أن يقول الإنسان: أشهد أن لا إله إلا الله ويؤمن بالله، فكان سهلاً جداً، ثم في كل مرة تنزل الأوامر وتنزل النواهي، فيثقل ويقيد حتى أصبح فيما بعد ثقيلاً، وفي الحقيقة لو نظرنا إلى الواقع فإن الأمر ليس كذلك، بل ربما كان نزول بعض الفرائض فيما بعد، ولذلك لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً- إلى
المدينة واستقر فيها نزلت أوامر كثيرة جداً، وهي أخف على المسلمين مما كانوا مطالبين به قبل نزول هذه الأوامر بالنسبة لدعوتهم هم، وإنما خفت عليهم الأوامر لما رسخ التوحيد واستقر في قلوبهم، وأصبحت خفيفة مهما يكلفون به فإنه مقبول، ولكن الصعوبة في أول الإسلام، أول ما يؤمر به الإنسان أن يسب الآلهة التي عاش عليها الآباء والأجداد، وأن يتخلى عما كان عليه الآباء والأجداد، وأن يعتقد كفر ذلك، وأن ينسلخ من تلك العادات والتقاليد والوثنيات والعبادات، فهذه تكاليف ثقيلة وعظيمة جداً، ولهذا من حقق التوحيد في أول الأمر هم السابقون الأولون، حتى لو مات بعضهم قبل نزول بعض أو كثير من الفرائض فهم في الحقيقة أهل الإيمان الصادق القوي؛ لأن الإيمان كان أثقل وأصعب وأشق ما يكون، أما بعد أن ضرب الإسلام بجرانه في الأرض، وأصبح للمسلمين دار هجرة، فالإنسان يشهد أن لا إله إلا الله، ويترك الأصنام ولا يضره، فهذا وإن نزلت عليهم الفرائض والعبادات، فإنهم أقل في الفضل والأجر من أولئك، فالجيل الأول وإن كانت الفرائض لم تكن قد نزلت أو بعض منها أو كثير منها، لكن كانت الفريضة أشق، ولذلك -حقاً- من قال منهم: لا إله إلا الله، فهم أول وأولى من يدخل في مثل هذا، بأن يحرم الله تبارك وتعالى عليهم النار، ويجعلهم من أهل الجنة؛ لأنهم قالوها وهي أشق ما يمكن أن تقولها النفس، إذ إن فيهما مخالفة لما عليه الألفة والعادة، والمجتمع والعرف والموازين والآباء والأجداد، كل هذه يلقيها الإنسان عندما يقول: لا إله إلا الله، ويعلن أنه مع هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع القلة المؤمنة التي معه، وأنه تخلى عن كل ما تعلمه إياه في الجاهلية من أديان وعادات وخرافات وضلالات وبدع، وهذا أمر عظيم وليس هيناً، ومن هنا فإن من آمن بهذا الإيمان -قبل نزول الفرائض- فإيمانه أعظم وأجره عند الله تبارك وتعالى أكبر؛ لأنه عانى مثل هذا، ولذلك المسألة ليست أن هذه الأحاديث منسوخة، ولا أنها كانت قبل نزول الفرائض، أو أن المقصود بها أن تؤول فيقال: إن هذا فقط في العصاة؛ فإنهم لا بد أن يدخلوا الجنة وإن عذبوا، فنقول: ليس هذا ولا ذاك، وإنما في الحقيقة أن هذا بحسب تفاوت نور لا إله إلا الله في قلوب أهلها، ففرق بين قائل وقائل.وهاهنا أمثلة عملية عدة، ومنها: الصلاة، أليس المسلمون يصفون -مثلاً- في المساجد ويصلون خلف إمام واحد؟ فهل صلاتهم واحدة؟ إن بعضهم تكتب له كلها، وبعضهم عشرها، وبعضهم لا يكتب له منها شيء والعياذ بالله، مع أن الجميع في الحركة الظاهرة سواء، لكن الفارق هو ما قام بقلب هذا من الخشوع والإخلاص والرغبة فيما عند الله تبارك وتعالى، وما ضعف عند الآخر أو خلا منه قلبه فأصبح يؤديها رياءً ونفاقاً، وهو غافل لاه ساه عن حقيقتها، وهكذا في كل الأعمال، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (
سبق درهم ألف درهم )، فكيف يسبق درهم ألف درهم في النفقة؟ أليس الإنسان عندما يدفع ألف درهم، ويعف بها طائفة كبيرة من الفقراء، أو عندما يدفع ألف درهم لجيش من جيوش المسلمين، أليس أنفع من أن يعطي درهماً لأسرة فقيرة، أو لهذا الجيش؟ إذاً ما المقصود بهذا؟ ليس المقصود نفع هذا الألف أو نفع الدرهم، إنما المقصود أثر ذلك على فاعله، وأجره الذي يناله ومنزلته عند الله، فهذا الدرهم إذا أنفقه وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويرجو الغنى وليس لديه غيره، وربما كان قوت أهله تلك الليلة، فكان فعلاً كما قال الله تعالى: ((
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ))[آل عمران:92]، أي: أعطى الدرهم بنفس تختلف كثيراً عن رجل لديه مائة ألف درهم، ورأى مجموعة من الناس فقيل له: إن هذه المجموعة من الناس فقراء، فقال: هذه ألف درهم، فهو لم يبالي بالألف كثيراً، ففرق بين قلب هذا وقلب ذاك، أو جاءه الموت وعنده هذه الآف فقال: تصدقوا عني بألف درهم، ففرق عندما تتصدق وأنت صحيح شحيح، وعندما تتصدق عند الموت وهكذا، إذاً الأعمال ليست بالكثرة وبما يراه الناس في الظاهر، وإنما بالحقائق القلبية الإيمانية التي تجعل عمل هذا أفضل عند الله تبارك وتعالى من عمل كثيرٍ، أو أضعاف ممن قد يماثله في مظهره الخارجي مثلاً.