المادة    
والنوع الثاني: أن يرتب النبي صلى الله عليه وسلم مقتضى ثبوت الخبر عليه، كغزو من أخبره بنقض قوم العهد، فإذا جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله! إن بني فلان نقضوا العهد الذي بينك وبينهم، فرتب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك غزوهم، ووجه الجيوش، وأعد العدة، وذهب إليهم لتأديبهم ولإرغامهم على الحق فإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأنه صدق خبر الواحد، ولهذا قال الله تبارك وتعالى في آية الحجرات: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ))[الحجرات:6] فمقتضى ذلك أنه إذا جاءنا العدل بالنبأ صدقناه وهذا هو الذي كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الآية من الأدلة على قبول خبر الواحد وأنه يفيد العلم؛ لأن الله تعالى إنما أمر بالتثبت والتبين في خبر الواحد الفاسق، أما العدل فإنه يصدق بقوله، وإذا كنا نتبين في خبر الفاسق فمعنى ذلك أننا لا نجزم بكذبه لمجرد أنه فاسق؛ لأن الفاسق يصدق ويكذب، فاحتمال الصدق وارد عليه كاحتمال الكذب، أما العدل الثقة فهو الذي لا يكذب، وأما من ثبت تعمده للكذب فإن الظن بصدقه وكذبه قد ينتفي وقد يترجح أو نجزم بأنه كاذب، فإذا قامت القرائن على خلاف ذلك عمل بها، فالقرائن تنقل الجزم إلى الظن، وقد تنقل الظن إلى الجزم حتى لو كان كاذباً، وإذا كان الرجل ممن هو معروف بالكذب فروى أو ذكر أو أخبر عن شيء واحتفت بكلامه قرائن، فذلك يجعلنا نظن صدقه، وقد تقوى القرائن جداً حتى نقطع بصدقه في هذا الخبر مع أننا نعلم أنه في العادة يكذب.
فـ ليس الآحاد نوعاً واحداً كما يزعم المتكلمون، وإنما بحسب القرائن والأدلة.
ومن ذلك أيضاً قبول الرسول خبر من أخبره عن رجل بأنه يشتمه وأمر بقتله.
قال ابن القيم رحمه الله: (فهذا تصديق للمخبر بالفعل، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقطع بصدق أصحابه كما قطع بصدق تميم الداري لما أخبر بقصة الدجال ، وروى ذلك على المنبر، ولم يقل أخبرني جبريل عن الله، بل قال: ( حدثني تميم الداري ) ) وحديث الداري رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم ، وهو حديث عجيب، وفيه أنه ظلت بهم المركب وتاهت في البحر، فرأى الجساسة ودلته على الدجال ، وكان من خبره ذلك الخبر العجيب، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره نادى النبي صلى الله عليه وسلم في الناس فاجتمعوا فقال: ( إني كنت قد حدثتكم عن الدجال وجاء تميم الداري فحدثني ... ) الحديث، ثم روى ما جرى لـتميم ، فالحديث رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن تميم وأقره عليه، ولم يروه عن الله عز وجل، فهذا دليل صدقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر من قبل ودليل تصديقه لـتميم رضي الله عنه فيما أخبر به، وهذا من الأمور الغائبة التي لا يمكن أن يجزم الإنسان بكذبها ولا بصحتها لذاتها، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أقره وصدقه، فدل على أن خبر الواحد الثقة العدل مصدق، ومن صدقه النبي صلى الله عليه وسلم فقوله وخبره حق ولا ريب في ذلك.
يقول ابن القيم: (ومن له أدنى معرفة بالسنة يرى هذا كثيراً) أي: في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله وسنته يأتي كثيراً أن يجزم بصدق أصحابه، ويرتب على أخبارهم مقتضاها، وإذا أخبروه بأي شيء من المحاربة والمسالمة والقتل والقتال فلم يقل يوماً من الأيام: إن خبرك يا فلان مردود، بل كان صلى الله عليه وسلم يصدق أصحابه كما سيأتي في القرآن ما يدل على ذلك عندما عابه وذمه المنافقون.
قال ابن القيم: (ونحن نشهد بالله ولله شهادة على البت والقطع لا نمتري فيها ولا نشك على صدقهم، ونجزم به جزماً ضرورياً لا يمكننا دفعه عن نفوسنا) رحم الله ابن القيم ، فهذا ما يجب أن يكون عليه المؤمنون الذين يعلمون فضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقدرهم ومنزلتهم من الدين، فيجب عليهم أن يشهدوا بهذه الشهادة، وأن يجزموا بمثل هذا الجزم، وأن يحلفوا بالله العظيم على ذلك، فأننا لا يمكن أن نظن أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقول عنه إلا الحق، فخبرهم حق، وكلامهم صدق رضي الله تعالى عنهم، وهو يفيد العلم الضروري الذي لا يمكن أن ندفعه عن نفوسنا كما تبين في معنى العلم الضروري.