المادة    
والشبهة التي ضلوا فيها، والمنزلق الذي وقعوا فيه كما قال رحمه الله تعالى: (إنما أتي منكر إفادة خبر الواحد العلم من جهة القياس) القياس الفاسد (فإنه قاس المخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرع عام للأمة، أو بصفة من صفات الله تبارك وتعالى على خبر الشاهد في قضية معينة).
وقد ذكرنا سابقاً الأقوال فقال بعضهم: (لا يجوز أن نقبل الحديث إلا إذا كان راويان فأكثر) وقلنا ما حجتهم والذين قالوا: ثلاثة أو أربعة قالوا: القياس على الشهادة، ولذلك نجد هذا في كتب الأصول، إذ إن كثيراً من الأصوليين المتكلمين يقولون: لا بد من اثنين، أي: لا يقبل الخبر العدل إلا إذا رواه اثنان، قياساً على الشهادة، يقول ابن القيم رحمه الله هذا قياس فاسد؛ لأنهم قاسوا من أخبر عن الله، عن حكم عام للأمة، عن صفة من صفات الله على شاهد في قضية من قضايا الحقوق الدنيوية، ويا بعد ما بينهما، فإن المخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قدر أنه كذب عمداً أو خطأً ولم يظهر ما يدل على كذبه لزم من ذلك إضلال الخلق.
ففرق بين هذا وذاك، فما يتعلق بالتشريع يختلف عما يتعلق بحقوق العباد، فلو شهد شاهدان على أن هذا المال لفلان ابن فلان، وحكم القاضي بذلك، وفي الحقيقة الأمر خلاف ذلك، فإنه لا يترتب عليه أكثر من كونه يأثم هو والشهود، والله تبارك وتعالى يوم القيامة يجازيهم على شهادة الكذب والزور، ويجازي ذلك أيضاً على دعواه الباطلة، ويرد لصاحب الحق حقه من حسنات ذلك الظالم، وهذا غاية ما في الأمر، أما لو أن أحداً كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافترى عليه وقال: إن الله حرم كذا، أو إن الله أحل كذا، أو إن الله تبارك وتعالى من صفته كذا وكذا، أو أن في عذاب القبر كذا، أو أن الميزان أو الصراط كذا، أو أنه يقع يوم القيامة كذا، ولم يتبين هذا الحق مطلقاً، ولم يجد من يبينه، ولا من يكشفه؛ فإن الذي يترتب عليه هو إضلال الخلق، والاعتقاد في الله وفي دين الله خلاف الحق، وأن يتعبدوا بالباطل، وأن يحرموا الحلال، أو يحلوا الحرام، فالله سبحانه وتعالى ينزه شرعه ودينه، وتتنزه حكمته سبحانه وتعالى وأفعاله أن يكون فيها هذا، أن يسكت أو يقر أو يريد ذلك سبحانه وتعالى، وكذلك أن يقره، أو يسكت عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يسكت عنه علماء الأمة فلا يبينوا حكمه، أي: تطبق الأمة كلها عليه وتعمل به وهو حديث موضوع لا يمكن أبداً أن يقع ذلك، ولهذا يوضح رحمه الله تعالى فيقول: (إذ الكلام في الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول، وعملت بموجبه، وأثبتت به صفات الرب وأفعاله؛ فإن ما يجب قبوله شرعاً من الأخبار لا يكون باطلاً في نفس الأمر، لا سيما إذا قبلته الأمة كلهم).
فهذا موضوع الخلاف بيننا وبينهم -الخبر الذي هذا حاله- وهكذا يجب أن يقال في كل دليل: يجب اتباعه شرعاً. أي: يجب أن يقال: إن كل دليل يجب اتباعه شرعاً لا يكون إلا حقاً، وهذه قاعدة، ولو قلنا غير ذلك لجاز أن تتعبد الأمة بالباطل، وهذا محال على الله تبارك وتعالى أن يجمعها عليه؛ فإنها لا تجتمع على ضلال، أما إذا تعبد بعضها به، لكن البعض الآخر أنكر، فإن الله يقيم الحجة على من تعبد بالباطل بمن أنكره وبين أنه باطل، وبالتالي فما دام حقاً فيكون مدلوله ثابتاً في نفس الأمر، وقوله: يكون مدلوله ثابتاً في نفس الأمر. ليس مجرد أنه ثابت من جهة العمل، لكن ثابت في الواقع ونفس الأمر، فهو مطابق للواقع، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله على الحقيقة، وليس مجرد أنه ما دام جاءنا حديث نعمل به، مع احتمال أنه لم يقله، فنقول: لا، يجب أن نعتقد أنه ثابت وواقع في نفس الأمر. يقول: (هذا فيما يخبر به عن شرع الرب تعالى وأسمائه وصفاته، قال: بخلاف الشهادة المعينة على مشهود عليه معين، فهذه لا يكون مقتضاها ثابتاً في نفس الأمر.
مثلما قلنا: لو شهد جماعة على مبلغ من المال أو أرض فلا يشترط أن يكون مدلول الشهادة ثابتاً في نفس الأمر) قال: (وحرف المسألة) يبدوا لي أنها محرفة، فإما أن تكون: وحقيقة المسألة، أو وسر المسألة، والأقرب: وحقيقة المسألة، قال: (إنه لا يجوز أن يكون الخبر الذي تعبد الله به الأمة، وتعرف به إليهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات أسمائه وصفاته كذباً باطلاً في نفس الأمر؛ فإنه من حجج الله على عباده، وحجج الله لا تكون باطلاً، ولا تكون كذباً، بل لا بد أن تكون حقاً في الواقع ونفس الأمر).