المادة    
وإثبات الولاية كما في قوله تعالى في سورة البقرة: (( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ))[البقرة:257]، فهذا دليل على أن من كان ولياً لله فالله تعالى يتولاه ويهديه ويوفقه للطريق المستقيم، والمؤمنون كلهم أولياء الله والله تعالى وليهم، وأما أصحاب الشمال الكفار فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) دليل على العداوة المطلقة أيضاً، (أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ)، أي: أن أولياءهم الذين يتولون أمرهم ويوجهونهم ويدلونهم على الباطل هم الطاغوت، فيخرجونهم من النور إلى الظلمات، فاختلفت صيغة الولي بين الإفراد والجمع، فالذين آمنوا وليهم هو الولي كامل الولاية والتصرف وحده لا شريك له، وأما الذين كفروا فلهم أولياء كثيرون، طاغوت للشهوات، وطاغوت في القانون، وطاغوت في السياسة، وطاغوت في الحكم، وطاغوت في العبادة، وطواغيت أخرى كثيرة، منها ما هو حسي كالأشخاص، مثل: فرعون وهامان والنمرود وغيرهم، ومنها ما هو حسي من الجمادات، مثل اللات والعزى وهبل وغيرها مما ينحتون ويعكفون له من التماثيل كما كان قوم إبراهيم عليه السلام ومشركو العرب وغيرهم، ومنها ما هو معنوي كمن اتخذ إلهه هواه، والطواغيت الكثيرة التي ظهرت في هذا الزمان طواغيت معنوية ليست حسية، لكن الطواغيت يوالي ويعادي فيها، بل ويكون فيها أقوى درجات العبودية، كأن يبذل الرجل من أجلها نفسه وماله وعرضه، ويهجر أحب أحبائه، ويوالي أعدى أعدائه، وهي هذه الشعارات، كـالاشتراكية ، و الشيوعية ، و القومية ، والوطنية ، و شيخ الإسلام رحمه الله، والشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهم، وفي صريح القرآن أن الطاغوت كما ذكر الله تبارك وتعالى بقوله: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ))[النساء:60] فكل من حكم بغير شرع الله فهو طاغوت، سواء كان كاهناً أو مستشاراً -كما يسمى الآن- أو قاضي نيابة أو وكيل نيابة أو شيخاً لقبيلة أو أياً كان فهو طاغوت، إذ إن الطاغوت عام في كل ما تجاوز به العبد حده؛ لأن أصل الطغيان في اللغة: مجاوزة الحد؛ ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: (( إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ))[الحاقة:11] فطغى بمعنى: تجاوز حده، والعادة أن الأمطار والعيون تتفجر إلى قدر معين، لكن لما أراد الله تبارك وتعالى إهلاك قوم نوح، وألا يبقى عليها منهم دياراً، طغى الماء فتجاوز حده، والجارية هي السفينة، وقال الله تبارك وتعالى: (( اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ))[طه:24]، أي: تجاوز حده بالكفر والضلال.
وقد لا يتجاوز الشيء أحياناً حده، وذلك كشجرة من الأشجار في الطريق، أو ميت من الأموات، أو حجر من الأحجار، فإذا جاء المطر اخضرت، وإذا قل المطر يبست؛ لأنها لا تملك لنفسها شيئاً، ولو فتح قبر لا يوجد فيه إلا تراب، لكن ما الذي يحدث؟ يتجاوز به الناس حده، وقد يقول لك: كل هذه الصخور والحجارة في العالم هي حجارة لا تضر ولا تنفع إلا هذا الحجر، الذي يذبح له ويعظم ويدعى ويتمسح به؛ ولهذا يقول الخليل عليه السلام: (( قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ))[الصافات:95-96]، فأنت بيدك تنحتها؛ ولذلك كانوا إذا أرادوا تعظيم الصنم ذهبوا إلى أفضل نحات وقالوا له: نريد أن تجعل لنا صنماً جميلاً، وإذا كان الذي يريد صناعة الصنم من الطواغيت البشر مثل كسرى أو قسطنطين أو أمثالهم من الملوك؛ فإنه يجعل عيونه من اللؤلؤ أو المرجان، ويجعل فيه من الفضة أحياناً، بل أحياناً يكون الصنم كله من الفضة أو من الذهب.
إذاً: هم يعبدون ما ينحتون ويصنعون بأيديهم، فسبحان الله كيف يضل الناس عن التوحيد ويقعون في الشرك والعياذ بالله؟! ولو أنهم فكروا وعقلوا ما فعلوا ذلك، فهم تجاوزوا بهذا الحجر، وتجاوزا بهذه الشجرة كما كانت العزى شجرة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح الطائف لقلعها، وما تملك إلا أن الجن كانت تأتي إلى هؤلاء عند الأشجار أو الأحجار، وربما خاطبوا أو كلموا من جاء فذبح لها؛ لأنه في الحقيقة إنما يذبح لسيدهم إبليس والعياذ بالله!
وقد يكون الوطن طاغوتاً، والوطن إلى أن جاءتنا فكرة الوطنية -لا بارك الله فيها ولا في أهلها- في أيام محمد علي باشا والبعثات إلى أوروبا كان في شعر العرب، وفي كلام الناس: المكان الذي عشت فيه فإذا وجدنا في شعر العرب مثلاً:
ولي وطن آليت ألا أبيعه            وألا أرى غيري له الدهر مالكا
فوطني: بلادي التي عشت فيها ونشأت فيها، وفيها أترابي وأحبابي، وليس فيه أكثر من هذا، لكن تجاوز به حده، فأصبحت قضية الوطنية، والمعالم الوطنية، والمنهج الوطني، والتربية الوطنية، حتى أصبحت كلمة (الوطنية) كأنها مقدسة والعياذ بالله، وقد جاءتنا من أوروبا فتجاوزوا بها حدها، وإن كان في أوروبا الوطنية والقومية تكاد تكون ممتزجتين، لكن عندنا لا يمكن أن تكون ممتزجتين، إذ إن كلنا عرب، وعندنا عدة أوطان، و أوروبا ما كانت موجودة؛ لأن الألمان يسكنون في ألمانيا ، والفرنسيين يسكنون في فرنسا، والإنجليز في بريطانيا ، فـالقومية هي الوطنية تقريباً، لكن نحن لو قلنا: أين الأمة العربية؟ ميشيل عفلق يصيح في بغداد فيقول: الأمة العربية، والحزب القومي في موريتانيا يقول: الأمة العربية! وبينهما آلاف الأميال، ولذلك عندنا افترق الشعارات أكثر، فجاءت الوطنية باسم الوحدة الوطنية، وعليه فلا تقل: هذا قبطي إن كنت في مصر ، أو أنا مسلم، بل الوحدة الوطنية، أيضاً في لبنان الكل درزي سني شيعي، كله وحدة وطنية، والشرعية هي الوطنية، وإن كنت في السودان فلا تقل: لا بد أن نجاهد النصارى في الجنوب ونقضي على حركة قرنق ؛ لأننا شعب واحد ووطن واحد، وهكذا في بلاد الشام وفي العراق وفي أي بلد فيه شرذمة أو طائفة من الروافض يقولون: لا تتكلموا على الرافضة ؛ لأننا كلنا وحدة وطنية، فرافضينا ومرجئينا وصوفينا وسلفينا كلنا وحدة وطنية والعياذ بالله، إذاً: المسألة ما عادت بالمفهوم القديم، والوطن لم يعد ذلك المفهوم، أي: الأرض التي نعيش عليها، إنما صار معتقداً ومبدأً يوالى ويعادى فيه ومن أجله، وباسمه تحارب العقائد الثابتة بالكتاب والسنة، وقس على ذلك كثيراً من الأمور.
إذاً: الطاغوت: ما تجاوز به العبد حده، وهم تجاوزوا بكل شيء من هذه الأشياء حدها، فأصبحت طواغيت كثيرة وأولياء كثيرون؛ فلهذا يقول تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ -بالجمع- الطَّاغُوتُ) لكنهم وإن اختلفوا وكثروا وتعددوا فإنهم يتفقون على شيء واحد -وهو المهم- وهو عملهم: أن أولياء الكفار يخرجونهم من النور إلى الظلمات، والنور الذي فيه الكفار هو نور الفطرة، إذ إن كل مولود يولد على الفطرة، فلو ترك الهندوس و النصارى و اليهود والاشتراكيون والشيوعيون والوطنيون والقوميون، ولولا الطواغيت وما يفرضونه من المناهج والأنظمة والأبواق والتقليد والأهواء والعصبيات القبلية إلى غير ذلك، لكانوا موحدين مسلمين، فهم يخرجونهم من نور الفطرة -الإسلام- إلى الكفر وظلماته والعياذ بالله.