المادة    
‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد قال المصنف رحمه الله تعالى: (والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوري، فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزءاً من الإيمان، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد، والقائلون بتكفير تارك الصلاة ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى، وإلا فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية اتفاقاً.
ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، وأعني بالقول: التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم: الإيمان قول وعمل، لكن هذا المطلوب من العباد: هل يشمله اسم الإيمان أم الإيمان أحدهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أطلق عليهما كان مجازاً؟ هذا محل النزاع.
وقد أجمعوا على أنه لو صدَّق وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه: أنه عاص لله ورسوله، مستحق للوعيد، لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال: لما كان الإيمان شيئاً واحداً، فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق و عمر رضي الله عنهما! بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وميكائيل عليهم السلام! وهذا غلو منه، فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه، فمنهم الأخفش والأعشى، ومن يرى الخط الثخين دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها، ومن يرى عن قرب زائد على العادة، وآخر بضده).
المقصود أن عبارة الشارح رحمه الله هنا، وهي منقولة عن شيخ الإسلام في بعض مواضع من كتاب الإيمان قد أوقعت في اللبس وفي الإيهام، خاصة أن المصنف يقول: إن الاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين اختلاف صوري، فهذا ما يقرره الشيخ الشارح رحمه الله، ويعلل ذلك فيقول: (فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب أو جزءاً من الإيمان)، والأعمال عند أهل السنة والجماعة أجزاء من الإيمان ويطلق الإيمان، حقيقة على كل شعبة من شعب الإيمان، وعلى كل عمل من أعمال الطاعات، فتسمى الصلاة إيماناً، ويسمى الأمر بالمعروف إيماناً، ويسمى إكرام الضيف إيماناً، ويسمى قيام ليلة القدر إيماناً، ويسمى إطعام الطعام إيماناً، ويسمى إماطة الأذى عن الطريق أيضاً شعبة من الإيمان وهكذا.
قال المصنف رحمه الله: (كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب -هو مذهب الحنفية- أو جزءاً من الإيمان هو مذهب أهل السنة والجماعة عامة- مع الاتفاق -بين الطرفين- على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، نزاع لفظي لا يترتب عليه فساد اعتقاد) فهنا جعل المصنف الخلاف لفظياً؛ لأنه نظر إلى الحكم على مرتكب الكبيرة في الآخرة، وإذا كان فقط النظر إلى أن مرتكب الكبيرة في الآخرة عند الله على ما يعتقد أهل السنة والجماعة و المرجئة الفقهاء أنه تحت المشيئة، فالخلاف فعلاً لفظي أو صوري، لكن ليس هذا هو الجانب الوحيد الذي ينظر إليه، وإنما كان النظر إلى هذا الجانب وحده، أي: الحكم على مرتكب الكبيرة، وكونه لا يخلد في النار، وأن أكثر المتكلمين في هذه المسألة يتكلمون فقط في هذا الموضوع، وكأنها هي القضية وحدها، وما ذلك إلا بسبب ظهور مذهب الخوارج وما أحدث من بلبلة في الأمة، فـالخوارج من جهة، والمعتزلة من جهة، فثارت المشكلة وصارت بلبلة، فالبعض ينظر إلى القضية من زاوية واحدة، ويرى أن المهم عنده هو أن لا يحكم على مرتكب الكبيرة بالكفر والخروج من الملة والخلود في النار، لكن كونها كما قال: جزءاً من الإيمان، أو لازماً للإيمان، فيرى أنها لا تهم، وهذه نظرة بعض الناس، لكن ينبغي أن ينظر إلى الأمر من جميع زواياه ومن جميع جوانبه، فيقال: هل يعتبر مرتكب الكبيرة كامل الإيمان؟ نحن لا نعتبره كامل الإيمان، لكن الحنفية يعتبرونه كامل الإيمان، وهذا خلاف حقيقي، أيضاً في الاستثناء، وفي الزيادة والنقص، وفي اسمه، أي: هل يطلق على مرتكب الكبيرة اسم المدح فيقال له: مؤمن ويسكت، أم لا بد أن يقيد؟ إذا قيل: مؤمن، فالمقصود به: مسلم غير كافر، وليس هو الثناء والمدح الذي وصف الله به أوليائه المؤمنين في قوله تعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ))[الأنفال:2]، وقوله: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ))[الحجرات:15] وآيات كثيرة.
يقول: (لا يترتب عليه فساد اعتقاد) أي: لا يطلق على أحد القائلين بهذا أنه موافق لمذهب الخوارج أو مذهب المعتزلة ، وهذا قصده، وهو صحيح بالنسبة لحكمه في الآخرة، إذ إنه لا يطلق عليه أنه كأحد المذهبين.
  1. بيان وجه القائلين بتكفير تارك الصلاة

  2. الفرق بين تارك الصلاة ومرتكب إحدى الكبائر فيما يتعلق بالإيمان

  3. اتفاق أهل السنة عموماً والأحناف على أن الله أراد من العباد القول والعمل

  4. غلو طائفة من الحنفية في باب الإيمان والرد عليها