والقضية الأخرى ينتقل الشارح رحمه الله ليزيد الأمر وضوحاً في وجهة نظره، فيقول: (ولا خلاف بين
أهل السنة عموماً -أي أن الحنفية وغيرهم- أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل)، أي أن العبارة التي تنقل عن
المرجئة وهما قولهم: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، أن هذه العبارة كما ذكر
شيخ الإسلام لم تثبت عن قائل معين منهم، وإنما تنقل في كتب الفرق هكذا، فيقول الشيخ: هذه العبارة لا يقرها ولا يؤمن بها
مرجئة الفقهاء أو
المرجئة الحنفية ، بل هم يعتقدون أن المعاصي تضر، وأن الله سبحانه وتعالى أراد منا الإيمان والعمل، أو أراد منا الإقرار والعمل أو التصديق والقول والعمل، وبالتالي فهو يقول: هذا قدر أيضاً مشترك بين
أهل السنة جميعاً، أحناف وغير أحناف: وهو أن الله سبحانه وتعالى أراد منا القول والعمل، فلو جاء قائل وقال: إن الله ما أراد العمل، وإنما أراد منا التصديق فقط والإقرار، لكان هذا خارجاً عن أقوال
أهل السنة ، فيكون الخلاف مع هذا خلافاً حقيقياً، أما أولئك فالخلاف صوري أو لفظي لاتفاقهما أن العمل مطلوب، إذاً فيم اختلفوا؟ يقول: (وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم: الإيمان قول وعمل، لكن هذا المطلوب من العباد -وهو العمل-: هل يشمله اسم الإيمان أم الإيمان أحدهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له؟)، فالحنفية لا يرون أن الإيمان يشمل الأمرين، وإنما يشمل عندهم جانب القول الذي هو الاعتقاد والإقرار باللسان، أما عمل الجوارح فلا يشمله، وكأن الأمر هين، وبالتالي فكلاهما يقول: إن الله تبارك وتعالى أراد منا العمل، وطلب منا أن نعمل، وإنما الفرق أن الحنفية يقولون: إن عمل الجوارح لا يدخل ولا يشمله اسم الإيمان، وإنما هو لازم أو ثمرة له، لكن الله تعالى أمر به وطلبه، ويجازي عليه إن كان إحساناً فإحساناً، وإن كان تقصيراً فيجازي عليه بالعقوبة. إذاً من هذا الكلام نستطيع أن نقول: إن الشارح يحترز من قول المتأخرين من
الأشعرية و
الماتريدية الذين يقولون: إن الإيمان بالزكاة والصلاة والأعمال الأخرى يعني الإقرار بوجوبها والإذعان النفسي والانقياد النفسي لأدائها وليس فعلها، فالشارح رحمه الله هنا يحترز فيقول: ليس هذا مذهب الحنفية، فلو أن أحداً قال: إن الله تعالى إنما طلب منا وأراد منا أن نقر بوجوب الصلاة وبوجوب الزكاة وجميع الواجبات، وأن نقر بتحريم جميع المحرمات، وهذا هو الإيمان المطلوب الذي يكفي، فنقول: لا، إذ إن الخلاف هنا حقيقي، وليس هذا هو المقصود، لكن وجد من المتأخرين من توهم ذلك، حتى أصبح يفسر أركان الإيمان وأركان الإسلام الخمسة بأنها مجرد الإذعان القلبي لأداء الفرائض، وليس أن تفعل هذه الفرائض، ولذلك في رواية صحيحة عند
ابن مندة في حديث جبريل الطويل: قال: (
أخبرني عن الإسلام؟ قال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ) ، ثم قال: (
فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم ) ، ومثله في الإيمان عندما سئل عنه، قال: (
فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: نعم ). إذاً فـ
حقيقة الإيمان المطلوب شرعاً: هو الامتثال بالفعل، أي: تشهد وتصلي وتصوم وتزكي وتحج.. إلخ أما مجرد اعتقاد أن هذه واجبات فلا يكفي، ولا يكون الإنسان به مسلماً ولا مؤمناً، ثم نقول: إن المتأخرين من الحنفية يرون أن ترك الأعمال مؤثر، فهم يقولون: إن الله تبارك وتعالى طلب منا العمل كما طلب منا القول، وهذا صحيح، لكن الخلاف مع متقدميهم في كونهم يخرجون الأعمال، ويجعلون الإيمان هو القول فقط، وهذا خلاف حقيقي بينهم وبين
أهل السنة والجماعة، ولذلك يقول: (هل يشمله اسم الإيمان -أي هل هذا هو المطلوب من العباد- أم الإيمان أحدهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أطلق عليهما كان مجازاً؟ هذا محل النزاع).إذاً من قال بتسمية الأعمال إيماناً مجازاً فالخلاف معه حقيقي ولا يكون لفظياً، فمن قال: أنا أسمي هذه الشعبة من شعب الإيمان، كقيام رمضان، أو قيام ليلة القدر، أو إكرام الضيف، وغير ذلك من التراجم الكثيرة التي جعلها الإمام
البخاري رحمه الله في
صحيحه، من قال: إنها إيمان على الحقيقة فقد قال بما صرحت به الأحاديث، وأما من قال: إن إطلاق الإيمان عليها مجرد مجاز، فالخلاف معه حقيقي وليس خلافاً هيناً؛ لأن إطلاق المجاز فيه ما فيه، وله مباحث أخرى في رده ونقضه، ولابد له من دليل، وغايته أن يكون ظناً، أي: أن يكون هذا من إطلاق الظن، ومن تفسير كلام ونصوص الوحي بمجرد الظن، فلماذا يعدل عن الاسم الصريح الواضح الثابت في الحديث إلى أن يقال: إنه مجاز بمجرد ظن واحتمال، فيكون الخلاف على هذا حقيقياً.وأيضاً مما يقوله الشيخ وهو امتداد للكلام السابق ليؤكد أن الخلاف هين: (وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه: أنه عاص لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، مستحق للوعيد)، وهنا يريد أن يأتي بمواضع الاتفاق بين عامة
أهل السنة وبين الحنفية، فيقول: كلاهما متفقان على أن من صدق بقلبه وأقر بلسانه وامتنع عن العمل بجوارحه: أنه عاص لله ورسوله مستحق للوعيد.إذاً فهناك فرق كبير بين الطائفتين، ويكون هذا الذي لم يأت إلا بإقرار القلب واللسان عند
أهل السنة والجماعة كافراً، لأنه ترك العمل بالكلية، وترك جنس العمل، وتارك جنس العمل لا يكون مؤمناً، وهو مستحق للوعيد، أي: وعيد الكفار، والحنفية يقولون: هو مستحق للوعيد، أي: وعيد العصاة، وفرق بين القولين، فمجرد أنه يجمعنا القول بأنه مستحق للوعيد لا يكفي؛ لأن المهم هو جنس الوعيد، إذاً لا شك أن تارك العمل بالكلية عند
أهل السنة والجماعة هو تارك للإيمان فيكون كافراً، ويكون وعيده وعيد الكفار، أما عند الحنفية فإنه إنما ترك اللوازم، أو ترك ثمرات الإيمان، ويكون مستحقاً للوعيد، ووعيده وعيد العصاة، وهذا وحده دليل على أن الفرق حقيقي أيضاً وليس صورياً كما يريد الشارح أن يقرره رحمه الله.