قول المُصنِّفُ في آخر عبارة: [فالنفاة أحسنوا في تنزيه الخالق سبحانه عن التشبيه بشيء من خلقه، ولكن أساؤا في نفي المعاني الثابتة لله تَعَالَى في نفس الأمر. والمشبهة أحسنوا في إثبات الصفات، ولكن أساؤوا بزيادة التشبيه] وهذا الكلام يقتضي أن كل المعطلة وكل المشبهة وقعوا في التشبيه بنية حسنة، فمجرد التشبيه لا شك أن فيه إثباتاً، ومجرد التعطيل لا شك أنه متضمن للتنزيه هذا مجرد الحكم عَلَى العمل، لكن هل يعني أن المشبهة أو النفاة محسنوا النية، بحيث لا يوجد أحد ممن نفى الصفات إلا ونيته حسنه؟
ليس كذلك؛ لأن من أعظم المشبهة اليهود.
وهل نيات اليهود حسنة بحيث أنهم أرادوا الإحسان في الإسلام وَقَالُوا: نشبه؟
لا يمكن ذلك لكن وجد في الْمُسْلِمِينَ من أخذ هذا الكلام بحسن نية بغير فهم ولا عقل.
فالنفاة
المعتزلة وهم أشهر هذه الطوائف ليسوا كلهم عَلَى حسن نية وعلى تنزيه لله،
فـإبراهيم النظام على سبيل المثال لو قرأتم ترجمته في سير أعلام النبلاء وغيرها من الكتب التي ذكرت ترجمته كَانَ عَلَى دين البراهمة الذين في الهند وهم موجودون إِلَى اليوم وكان في البراهمة فلاسفة ينكرون النبوات والوحي فدخل إبراهيم النظام في دين الإسلام وعنده هذه العقيدة، ولهذا قال عنه بعض العلماء: "وواقع حاله ينطق بذلك" -أي: أنه دخل في الإسلام ليفسد دين الإسلام- وأفسده بطريق المبالغة في العقل؛ لأن البراهمة أو طائفة منهم يقولون: إن العقول تغني عن الشرائع.
جاء إبراهيم النظام ودخل في المعتزلة وصار من رؤسائهم وقَالَ: إن العقل هو المعيار في إثبات أي شيء لله وفي نفي أي شيء ويكتفى به عن الشرع، وقال بعض الفلاسفة مثل: ابن رشد في كتاب فصل المقال بما بين الحكمة والشريعة من الاتصال يقولون: الشريعة لا تنافي الحكمة -والحكمة هي الحقيقة نفسها عند الصوفية- لكن العقل أو الحكمة لا تتنافى مع الشريعة؛ لكنهم لو صرحوا لقالوا: الشريعة تنافي الحكمة فحينئذ يكفرهم العوام وتنبذهم؛ لأنهم سوف يقولون: نَحْنُ مع الشريعة ولسنا مع الحكمة، وهذا شيء طبيعي عند الناس؛ لكنهم قالوا: الشريعة لا تتنافى مع الفلسفة، أي: الحكمة.
ويقولون: أعظم شريعة جاءت عَلَى ظهر الأرض وعرفها العالم شريعة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن لو قرأنا هذا الكلام لقلنا: هَؤُلاءِ طيبون يمدحون الإسلام، ولكن هَؤُلاءِ في الحقيقة يقصدون شيء آخر.
يقولون: نَحْنُ عندما عرضنا الشرائع القديمة عرضنا
اليهودية و
النصرانية عَلَى العقل، أي: عَلَى الحكمة التي هي الميزان فوجدنا فيها الخلل والاضطراب والتناقض، فمثلاً عندما يقرأ أي إنسان التوراة وعنده عقل. فأول ما يقرأ في سفر التكوين يقرأ عن قضية خلق آدم وأن جنة عدن في
البصرة وأن الرب يمشي في الجنة، ولا يدري أين ذهب آدم وحواء، وأنهم كانوا مختبيئن، ثُمَّ طلعهم ثُمَّ كذا.. هذا الكلام لا يقبله العقل حتى
الفلاسفة الأولين لما قرأوا هذا الكلام، قالوا: هذه الشريعة باطلة ينقضها العقل، وَقَالُوا: لما قرأنا القُرْآن وجدناه جَاءَ بحكمة عجيبة، ثُمَّ قالوا: لو نقول: إن في القُرْآن تشبيه، هكذا بصراحة لنفر منها الْمُسْلِمِينَ، لكن نقول لهم: الشريعة والحكمة كلاهما حق وكلاهما يدل عَلَى شيء واحد؟ ثُمَّ قالوا: إن الشرائع جاءت للعوام، والعوام لا يفهموا إلا أن تقول لهم يد وغضب ورضى ورحمة وخوف ورجاء وكذا لكي يفهموا؛ لكن العقلاء الحكماء هَؤُلاءِ جاءت لهم الحكمة.
أي: أن شريعة الله وحي رَبّ الْعَالَمِينَ الذي نزل به جبريل للضعفاء والبسطاء؛ ولكن نَحْنُ عندنا ما هو أعظم مما أنزل الله عياذاً بالله هذا كلامهم أعظم مما نزل الله في الكتب، وأعظم مما بعث به جبريل، وأعظم مما أرسل به مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو من كلام
أرسطو و
أفلاطون و
فرخريون إِلَى
ابن سينا و
الكندي و
الفارابي يقولون: هذا للطبقة العليا المثقفة وهذا يشبه قول
الصوفية عندما قسموا الدين إلى: حقيقة وشريعة. وَقَالُوا: لا يوجد تعارض بين الحقيقة والشريعة. فالحقيقة للخاصة ولخاصة الخاصة أما الشريعة فهي للعامة.
نرجع فنقول: هذا لأن كلمة المُصنِّفُ هنا قد توهم: لأن النَّاس قد يقولون: أنتم تهاجمون
المعطلة وتهاجمون
المشبهة والمصنف يقول: إن
المعطلة و
المشبهة أحسنوا، لكننا نقول: العمل في ذاته فيه حق وتبعه كثير من الباطل لكن لا يستلزم ذلك القول بأن هَؤُلاءِ النَّاس جميعاً جاؤا وأرادوا الحق وأرادوا الإحسان، بل الذين كانوا في عهد النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المنافقين لما أقسموا بالله أنهم لا يريدون إلا الإحسان والتوفيق لم يقبل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منهم ذلك؛ بل رده عليهم وأمر رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعرض عنهم وأن لا يصدقهم في هذا القول، فكثير من النَّاس يدعي الإحسان ويدعي التوفيق [إما التوفيق بين العقليات والنقليات، وإما الإحسان، وإما الإصلاح بين الحقيقة والشريعة، أو بين الحكمة والشريعة] كما يزعم هَؤُلاءِ، والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.