النظر والاستدلال هو بمعنى المعرفة العقلية، وإذا جاءت كلمة النظر في هذا الشرح فمعناها: المعرفة العقلية، أو الاجتهاد العقلي، أو الاستدلال العقلي.
والنظر نوعان:
النوع الأول: نظر عقلي محض وهو النظر الكلامي: وهو اتباع القواعد المنطقية والفلسفية في التفكير، فهذا النظر لا يأتي إلا بالضلال، ولا يثمر لصاحبه أي علم أو هدى.
وهذا الذي سلكه هَؤُلاءِ المعبرون عن حيرتهم وضياعهم وضلالهم.
النوع الثاني: نظر شرعي وهو: النظر لفهم نصوص الكتاب والسنة بالتدبر والتأمل والتفكر لفهم كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، كما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وهذا الاستدلال هو الذي يوصل إِلَى اليقين، فطريق اليقين هو: النظر أو الاستدلال الشرعي، لا الاستدلال والنظر الكلامي المنطقي،ومن ذلك أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ضرب لنا الأمثلة الكثيرة عَلَى أعظم القضايا وهي قضايا الإيمان، فقضية الإيمان بالله سبحانه مثلاً ضرب الله عليها الأمثلة لإثبات وحدانيته سبحانه، وأنه حق، وعلى أن القُرْآن حق، وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق.
يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)) [فصلت:53] فهناك آيات في الكون، وآيات في النفس، فعلماء الفلك والطب مثلاً يعرفون هذه الأمور، والبدوي العامي الجاهل ينظر إِلَى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت، وبإمكانه أن ينظر إِلَى البعير الذي يركبه كيف خلق، فيصل به نظره وتدبره إِلَى اليقين والاعتقاد الجازم الصادق الذي لا يدخله ريب ((أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)) [البلد: 8-10] كل إنسان ينظر كيف خلقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيصل عن طريق هذا النظر إِلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق.

وكذلك الإيمان باليوم الآخر، وهو أكثر القضايا الغيبية إنكاراً عند الْمُشْرِكِينَ، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أقسم عَلَى الإيمان باليوم الآخر، لأنه يقابل بالإنكار وبالجحود من كثير من الْمُشْرِكِينَ، فأقسم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى أن البعث حق في ثلاثة مواضع من كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبين الحكمة العظيمة في ذلك، بحيث لو تأملها الإِنسَان لفطن وتدبر أن الإيمان بالموت حق.
فضرب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سور كثيرة وآيات عديدة الأمثال بإحياء الأرض الميتة، فإذا جَاءَ المطر، أتت الزهور الخضراء والحمراء، والنباتات الطويلة، والنباتات الممتدة، ولها روائح مختلفة، ولها نسبة من السكر، هذا أكثر، وهذا أقل، وهذا مر، وهذا فيه دواء، وهذا فيه غذاء للناس، وهذا فيه غذاء للدواب.
فهو سبحانه ضرب المثل بأنه قادر عَلَى إحياء الموتى بإحياء الأرض الميتة، قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: و((إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى)) [فصلت:38] فيضرب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا هذه الأمثلة لنستيقن، ونعلم أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق، وأن الإيمان بالآخرة يقين لا يتزعزع لذلك يقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) * ((ليُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ)) [النحل:38-39].
هنا آيات أخرى تدل عَلَى أن البعث حق؛ وهي: العبرة النظرية، حيث يتفكر الإِنسَان إذا قال المُشْرِكُونَ: "والله لا يبعث الله من يموت" ((وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون))َ [النحل:39] ليبين الحكمة قال تعالى: ))لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ((هذه واحدة.
والأخرى ((وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ)) لو تأمل الإِنسَان هاتين الحكمتين لاستيقن أنه لا بد من اليوم الآخر.
((لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهَِ)) فكم يختلف البشر في قضايا علمية وفي دعاوى وحقوق، بل اختلف النَّاس في أمور أعظم من ذلك وهو ربهم عَزَّ وَجَلَّ، فمنهم من يعبد الأحجار ويقول: هذا ربي، ومنهم من يعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق العبادة، ومنهم من يعبد ثلاثة، ومنهم من يعبد عشرة.
وهذه الاختلافات الواقعة بين النَّاس ووجود الظالم والمظلوم، والباغي الباطش المتكبر الجبار المحارب لله عَزَّ وَجَلَّ الذي يعيش عمراً طويلاً في عافية وقوة، يظلم عباد الله عَزَّ وَجَلَّ، ويتسلط عَلَى دمائهم وأموالهم، ويفعل ما يشاء ثُمَّ يأتيه الموت، ويوجد من عباد الله الصادقين المخلصين المقربين لله عَزَّ وَجَلَّ الذين يبتلون بأنواع من الآلام والفتن، ثُمَّ يموت.