قَالَ المُصنِّفُُ رحمه الله تعالى:
[والله تَعَالَى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، فلا هدى إلا فيما جَاءَ به، ولا ريب أنه يجب عَلَى كل أحدٍ أن يؤمنَ بما جَاءَ به الرَّسُول إيماناً عاماً مُجملاً، ولا ريب أن معرفة ماجاء به الرَّسُول عَلَى التفصيل فرض عَلَى الكفاية، فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسوله، وداخل في تدبر القُرْآن وعقله وفهمه، وعلم الكتاب والحكمة، وحفظ الذكر، والدعاء إِلَى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إِلَى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ونحو ذلك مما أوجبه الله عَلَى المؤمنين، فهو واجب عَلَى الكفاية منهم. وأما ما يجب عَلَى أعيانهم: فهذا يتنوع بتنوع قدرهم، وحاجتهم ومعرفتهم، وما أمر به أعيانهم، ولا يجب عَلَى العاجز عن سماع بعض العلم أو عن فهم دقيقه ما يجب عَلَى القادر عَلَى ذلك. ويجب عَلَى من سمع النصوص وفهمها من علم التفصيل مالا يجب عَلَى من لم يسمعها ويجب عَلَى المفتي والمحدث والحاكم مالا يجب عَلَى من ليس كذلك] اهـ
الشرح:
يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذا عرفنا أن القرآن، وأن الوحي عامة هو النور، وهو الهدى والشفاء، وهو الذي منه تعرف هذه الأصول الثلاثة، حيث تعرف الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ومن أسمائه ومن صفاته، ومن حق العبودية علينا.
إذا كَانَ ذلك كذلك فما مقدار معرفة كل إنسان بهذا القرآن؛ وكأنه بذلك يحتاط ويحترز عن قول بعض الناس: إنه يجب عَلَى كل إنسان أن يعرف العقيدة كاملةً تفصيلاً، وإلا لم يكن مؤمناً.
وهذا القول قاله بعض
المتكلمين و
الخوارج، وكثير من الزائغين المنحرفين عن منهج
أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
أما
أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فقولهم هو ما يوافق الكتاب والسنة وهو: أن الإيمان عَلَى نوعين:
إيمان مجمل.
وإيمان مفصل.
فأما الإيمان المجمل: فهذا الذي في إمكان كل إنسان أن يعرفه ويتعلمه مثل: معرفة أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واحد لا شريك له، وأنه أرسل أنبيائه بالهدى، وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو رَسُول الله المطاع المقتدى به وحده، وأن الصلاة والزكاة وأشباهها من الأمور الظاهرة المعروفة بالضرورة أنها فرائض، فرضها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى العباد، فهذا يسمى الإيمان المجمل، وهو الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث جبريل حين قَالَ: {أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره من الله تَعَالَى} وهذا الإيمان المجمل يجب أن يعلَّم للعوام حتى يعرفوه ويفهموه، وتقوم الحجة عليهم، وإلا فيأثُمَّ من لم يعلمهم.
وأما الإيمان المفصل: فإن معرفته فرض كفاية، مثل: معرفة الأسماء والصفات بالتفصيل، وأدلة كل منها، ومعرفة الأحكام الشرعية تفصيلاً؛ لأن الإيمان شعب، وكل عبادة وطاعة من فرض أو نفل فهي شعبة من شعب الإيمان.
وأما الخوارج فَقَالُوا: يجب معرفة الإيمان تفصيلاً، لأنه شيء واحد فقط، وهو ما يقوم في القلب.
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرنا أن نتعلم وحثنا عَلَى العلم، لكن العلم التفصيلي لا يجب عَلَى كل إنسان أن يتعلمه، وهو داخل في قوله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) [التغابن:16].
لكنه في حق الأمة كافة فرض كفاية، يجب أن يوجد في الأمة العلماء والمفتون والحكام الذين يحكمون بما أنزل الله، ويفتون النَّاس بما أنزل الله، ويعلمونهم شرع الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التفصيل.
وأما المعرفة العينية فهو متنوع بحسب قُدَرِهِمْ، فكل إنسان بحسب قدرته.