أول ما يذكره الكتاب عنه هو النسب كالعادة، وهذا يعطي الانطباع لدى أي إنسان بأنها كتابة بشرية مزجت الوحي بآراء الكتبة.
يتكلم عن النسب -كما ذكرنا في الحلقة الماضية- ويجعلون من نسبه عابر الذي هو جدّ عاد, كما يقول كثير من المؤرخين قديماً وحديثاً.
على أية حال لا إشكال في هذه المسألة, ولا أهمية كثيرة لها إلا من ناحية أن نعلم أن (إرم ذات العماد) التي ذكرها الله تبارك وتعالى بالاسم في القرآن في قوله: (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ))[الفجر:6-7], وجاء في التكوين أن إبراهيم عليه السلام كان آرامياً نقول: إنه من بقايا هؤلاء.
هناك إرم القديمة كما ذكر الله تبارك وتعالى عاداً الأولى: (( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى ))[النجم:50], وبقي من نسلهم عدة ممالك امتدت إلى ما قبيل الميلاد بعدة قرون في أنحاء متفرقة، ومنها مملكة (آرام) المتأخرة التي كانت معاصرة لمملكة إسرائيل في أرض فلسطين .
فنسبة إبراهيم عليه السلام إلى إرم أو إلى عاد على ما بين مدة إبراهيم عليه السلام وعاد الأولى من آماد طويلة لا يعلمها إلا الله كما بين في كتابه؛ المقصود منها: أنهم بقية هذه الأمة, وهي كغيرها من الأمم يعتريها الإيمان ويعتريها الكفر, وتكون لها ذرية وتكون لها بقية؛ فلا إشكال على الإطلاق في أن يكون إبراهيم عليه السلام كما جاء في التوراة من ناحية النسب أو القبيلة آرامياً, وهم من العرب القديمة الذين بقوا ثم اندمجوا بعد ذلك في العرب المحدثين من بعدهم.
فعلى أية حال هذه مسألة ليست بذات الأهمية إلا لنقول: حيث ما وجدنا مخرجاً لما يأتي في الكتاب المحرف ويمكن أن يكون صحيحاً لا حرج عندنا؛ بل حيث ما نجد أن المؤرخين تحاملوا عليه فنحن ننكر تحاملهم، وحيث ما أمكن أن يكون هناك في الأمر قولان نقول: فيه قولان ولا حرج أيضاً؛ ولكن حيثما نجد أن الجزم والقطع واضح فإننا نجزم به كما ذكرنا في أبيه، فكون التوراة تقول: اسمه تارح , وكون أهل الكتاب يقولون: إن تارحاً شخص آخر ولا يذكرون آزر! فنحن نقول: هذا خطأ, وما نص عليه الله تبارك وتعالى هو الحق؛ فهو سمى أباه آزر .
وهنا يمكن أن نضيف شيئاً قد ينفع؛ وهو أن آزر أو آشور كما رجحها الأستاذ العقاد وغيره يمكن أن تكون آزر تحريفاً لـآشور، ومن ثم من ينتسبون إلى إبراهيم عليه السلام أو إلى أبيه ويقولون: إنهم آشوريون فيمكن أن تكون النسبة إلى أبيه أو إلى آشور جد أعلى أيضاً له، فأقرب شيء أن يكون كذلك.
لكن على أية حال هو رجل حقيقة, واسمه كما ذكر الله تبارك وتعالى حقيقة آزر ، وهو أبو إبراهيم عليه السلام سواء صح تأويل العقاد أو غيره في أن تِيرح أو تَيرح تحريف لفظي أو لم يصح، لا يهمنا ذلك، فإنما يكون التأويل والمقارنة عند تساوي الدليلين في القوة، أما عندما يكون في كلام الله تبارك وتعالى أمر واضح جلي قطعي فيأتي غير ذلك من كتب أهل الكتاب ومن اتبعهم فلا اعتبار لتلك المعارضة بأي شكل من الأشكال.
المقصود: أن أعظم ما يوصف به إبراهيم عليه السلام وما ميزه الله تعالى به -وهو ما أشرنا إليه أيضاً في نوح عليه السلام- هو: الرسالة والنبوة والدعوة إلى توحيد الله تبارك وتعالى, والدعوة إلى إفراده تعالى بالعبادة, بعد أن عُبدت الأصنام, وبعد أن عُبد الأولياء والصالحون, وعبدت الآثار والآباء.. إلى آخر ذلك.. ومن ذلك عبادة الملوك والأحبار والرهبان؛ فيأتي التوحيد النقي الذي يدعو إليه إبراهيم عليه السلام.
وكما أشرنا أن القضية المهمة في نوح عليه السلام ليست هل كان فلاحاً أو ماذا فعل؟ لكن القضية المهمة هي الرسالة كما في القرآن (( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ))[نوح:1], فالمهم هو الرسالة, حيث افتتحت السورة بهذا.
وكذلك إبراهيم عليه السلام نجد الأمر فيه أوضح وأجلى من حيث إن أهل الكتاب لا يكادون يأتون على هذا؛ بل كما أشرنا في مباحث النبوة: أنهم لا يكادون يفرقون بين الكاهن وبين النبي, كما سيأتي إن شاء الله.
أضف تعليقا
تنويه: يتم نشر التعليقات بعد مراجعتها من قبل إدارة الموقع