الأستاذ رشيد رضا في تفسير المنار ننتقل معه إلى المنهج الثالث -وهو منهج القرآن- في الحديث عن الطوفان، والمقارنة بينه وبين ما في التكوين.
قضية الستة أيام والخلاف فيها وأول السِّفر لا يهمنا كثيراً؛ لكن يقول: إن القصة التي جاءت في التوراة ليس فيها أن نوحاً كان رسولاً, ولا أنه دعا قومه إلى الله, ولا أنه آمن معه أحد, ولا أنه كان له ولد كافر غرق مع قومه, ولا امرأة كافرة -يعني: لم يأت بهذه الأمور- وإنما يتفق القرآن و التوراة في أن سبب الطوفان غضب الله تبارك وتعالى على البشر بفسادهم وظلمهم. هذا هو القدر المشترك.
ويضيف شيئاً آخر فيقول: يوافق القرآن سفر التكوين تقريباً في عمر نوح؛ وهو تسعمائة وخمسون سنة؛ ولكن نص القرآن أنه لبث في قومه هذه المدة.
والصحيح: أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً كما ذكر الله تبارك وتعالى، وهذا لا علاقة له بعمر نوح؛ لأنه لم يبعث إلا بعد أمد، قيل: إنه ما يقارب خمسمائة عام كما في بعض الروايات، ثم لم يذكر الله تبارك وتعالى لنا كم عاش بعد ذلك عندما قال: (( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ))[الصافات:77]؛ فإذاً: هذه الألف سنة إلا خمسين عاماً ليست في الحقيقة عمر نوح عليه السلام؛ وإنما -كما جاءت في القرآن- هي مدة لبثه ومكثه عليه السلام في دعوة قومه إلى الله تبارك وتعالى فقط.
عند ذلك يأتي الشيخ رشيد رضا ويبدأ في مقارنة، ويلخص لنا خبر الطوفان في الأمم القديمة؛ لتظهر بهذه المقارنة الحقائق الواضحة بين ما جاء في التوراة , وما جاء في القرآن وما جاء في هذه الأمم.
يبدو لي من كلامه أنه رحمه الله نقله من كلام يوسف الدبس من كتابه الذي أشرنا إليه فيما مضى وهو: تاريخ سوريا , اللهم إلا إذا كان الاثنان ينقلان من مصدر واحد؛ لكن ربما يكون الأول أرجح, وهذا لطرافته لا بأس أن ينقل، وفيه بعض الأمور الطريفة فعلاً.
يقول الشيخ: ورد في تواريخ أكثر الأمم القديمة ذِكر للطوفان, منها الموافق للتكوين إلا قليلاً، ومنها المخالف له إلا قليلاً.
ثم يبدأ بذكر الروايات، ويذكر -مثلاً- رواية الكلدانيين وغيرهم, التي تتحدث عن ملحمة قلقامش -الملحمة التي تحدث عنها كثير من المؤرخين، وهي ملحمة قديمة فعلاً وكانت باللغة الآكادية, وقد حظيت بالبحث والإعجاب الشديد، ويتحدث عنها الشعراء والأدباء والمؤلفون والمؤرخون, وترجمت عدة ترجمات، وبين يدي الآن أربع ترجمات لهذه الملحمة، من أطرفها الترجمة التي عملها الدكتور سامي الأحمد ؛ حيث إنه يأتي بالنص الآكادي ثم بعد ذلك يأتي بالترجمة، وبهذا يظهر لنا فائدة عجيبة جداً، وهي: أن أصل اللغة الآكادية القديمة هي اللغة العربية؛ فالكلمات عربية مثلاً: الرب المعبود هنا -كما يزعمون- هو شمش أي: الشمس, وبقية اللغة هناك قواسم مشتركة.
المقصود: أن أقرب رواية لما في التكوين هي ما جاء في ملحمة قلقامش التي جاءت في الأساطير القديمة في بلاد الرافدين ؛ لكن هناك أمم أخرى لها شيء من هذا، والعجيب أننا لاحظنا أن كل شعب يسمي الرسول الذي نجا اسماً مختلفاً، ولا يوجد تطابق إلا ما بين التوراة والقرآن في أن اسمه نوح عليه السلام، أما بقية الكتب فذكروا أسماء أخرى لا تهمنا، -مثلاً: اليونانيون ذكروا اسماً آخر، والفرس لهم قصة أخرى، والهنود والصينيون لهم قصص أخرى، وفي البرازيل لها قصة أخرى، وفي المكسيك لها قصة أخرى, فلكل بلد قصة؛ لكن من أطرب ما فيها ما ورد عن قدماء الفرس، وهو أنهم قالوا: إن الله تعالى أغرق الأرض بالطوفان بما انتشر فيها من الشرور والفساد، وذلك بفعل إله الشر أهرمن -أو لعلهم يريدون الشيطان لكن حرفت- وقالوا: إن هذا الطوفان فار أولاً من تنور العجوز؛ إذ كانت تخبز خبزها فيه!
والتنور لم يذكر في الأساطير المعروفة فيما اطلعت عليه, إلا في أساطير الفرس، وجاء النص عليه في القرآن, ونحن لاحظنا وأشرنا -ونؤكد الآن- أنه ليست عادة القرآن أن يأتي بالتفاصيل! لكن لما ذكر هنا التفصيل هذا فمعناه: أن التفصيل إنما ذكر ليصحح ما قاله قوم ويخطئ ما قاله آخرون؛ لأهميته في التصحيح وبيان الحقيقة، وإن كان غير مهم في العبرة وفي الموعظة وفي الهدى وفي البيان، -هذا لا يهم كثيراً لكن يهم فقط في هذا.
إذاً: الفرس فقط -من بين كل الأمم- هم الذين احتفظوا بأنه فار التنور، فيأتي ذلك في القرآن كذلك, وهو على الأصح فعلاً ما يخبز فيه.
بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى أمر السماء أن تمطر، وأمر الأرض أن تُـخرج ماءها وفجّرها ينابيع، فإذا كانت قد تفجرت الدنيا ينابيع حتى أن التنور الذي يخبز فيه انفجر منه الماء! فمعنى ذلك: أن هذا لا يمكن أن يكون إلا العذاب؛ لكن في الحالات العادية والطبيعية ممكن أن تنفجر أي عين في أي مكان؛ لكن أن ينفجر التنور ويفور فهذه علامة مؤكدة جعلها الله تبارك وتعالى لنوح عليه السلام على أن الأمر هو عذاب، وأنه جاءهم ما كانوا يوعدون؛ فحينئذٍ عليه أن يدرك نفسه ويركب هو والمؤمنون في السفينة.
أضف تعليقا
تنويه: يتم نشر التعليقات بعد مراجعتها من قبل إدارة الموقع