حادثة الطوفان في منهج الوحي المحرف
المنهج الثاني: هو منهج الوحي المحرف -ونعني به: ما ورد في سفر التكوين أو الخليقة من التوراة- وهذا الموضوع هو الذي ثارت ثائرة الفكر الغربي عليه منذ عصر التنوير في القرن الثامن عشر الميلادي -كما يسمونه في الغرب- وأصبحت مشكلة الطوفان هي إحدى المشكلات الكبيرة؛ لأنها جزء من القول بعدم دقة تواريخ التوراة وانطباقها على الحقيقة والواقع.هذه المشكلة العويصة -التي لن نستطيع طبعاً الإفاضة فيها-؛ لكن نأتي عليها من المصادر أو الشروح الكتابية، ولا سيما من دائرة المعارف الكتابية التي كتبها مجموعة منهم وطبعت مؤخراً، وبذلت فيها جهود كبيرة جداً للدفاع عن الكتاب المقدس عندهم, وأنه كله وحي، وأنه لا خطأ فيه ولا تناقض.الحقيقة أن ما كانوا قد قرروه -وأشرنا إليه من قبل- في مسألة أنه خلق العالم قبل أربعة آلاف سنة من ميلاد المسيح عليه السلام، وأن ذلك يمكن أن يكون معقولاً جداً, وإلغاء ما يتعارض معه، هذا الكلام الذي أقروه في مادة أنتربولوجيا أو غيرها ناقضوه هنا وبشكل واضح -على ما سوف نذكر إن شاء الله تبارك وتعالى- لأنه لا يمكن الجمع بين النقائض بالفعل.أول ما بدءوا في الفقرة الخامسة في هذا الموضوع يقولون: إن الطوفان قديم العهد، وأن هناك دلائل على وجود فجوات بين الأجيال المذكورة في الإصحاح الحادي عشر من التكوين.لاحظوا هنا أنهم يعتبرونها أجيالاً؛ لأنهم قالوا: فلان ابن فلان ترتيب مرتب, فذكروا موته وحياته وولادته وكل شيء، ولم يعتبروها كما جاء في القرآن الكريم أمماً؛ يعني: أمة بعد أمة وقرناً بعد قرن، فمن هنا وقعوا في هذا الخطأ، وهذا يدلنا على أن كثيراً من التحريف الواقع في الكتب هو بأن يضاف ويدخل فيها تفاصيل ليست حقيقية وليست منها، فبالتالي يشك الشاك في أصل القضية برمتها.المهم أنهم قالوا: لو أنه لا توجد فجوات بين الأجيال المذكورة؛ لكان معنى ذلك أن كل الآباء بعد الطوفان -بما فيهم نوح نفسه- كانوا ما زالوا على قيد الحياة عندما كان إبراهيم في الخمسين من عمره! وهذه مشكلة كبيرة جداً إذا نظرنا إلى جداول التوراة وتقاويم التوراة وطبعات التوراة -وقد أشرنا إلى هذا في الماضي وأن هناك نسخة عبرانية ويونانية وسامرية- بالفعل هناك إشكال كبير جداً في مسألة كيف يمكن -مثلاً- أن تحدد التوراة أن الطوفان وقع ونوح عليه السلام عمره ستمائة سنة! فعلى هذا يكون كما يقرر الشيخ رحمة الله يقول: يكون نوح عليه السلام حين مات آدم عليه السلام ابن مائتين وثلاث وعشرين سنة؛ تَقَارُب هذه العصور يجعل أن آدم عاش في حياة نوح هذه المدة، ثم أشد من ذلك هو أنه عندما مات نوح يكون عمر إبراهيم عليه السلام خمسين أو ثمان وخمسين سنة.فهذه كلها تناقضات لا يمكن أن تكون، وهم أنفسهم وغيرهم من النقاد وافقوا الشيخ في هذا بقولهم: لا بد إذاً أن يكون هناك فجوات كبيرة في المدة التي بين هذا وبين هذا.ومن ذلك مثلاً: أنهم يجعلون العقوبة نزلت على بابل، و بابل المعروفة كانت تقريباً قبل المسيح بأربع وعشرين ألف قرن, يعني: ألفين وأربعمائة إلى ألفين وثلاثمائة سنة، وهذا أحد الأخطاء التي تتكرر؛ لأن المقصود ليس بابل! -ليس في القرآن طبعاً ولا في العلم ما يدل على أن الذين أغرقوا هم بابل- إلا إذا كان الاسم اسم جنس؛ بأن يقال: المنطقة التي فيها بابل ، أو بابل بمعنى تشمل منذ أن خلقها الله واستمرت في هذه الأرض إلى ما بعد، كما نسمي العراق العراق طوال التاريخ, أما إن كان المقصود بابل أي: الحضارة البابلية التي اكتشفت وكانت في القرن الثامن قبل الميلاد فهذا لا يمكن أن يكون كما قرروا هم بأنفسهم هنا. ولذلك يقولون: هناك أدلة قوية تقتضي تحديد زمن الطوفان بعد عام سبعة آلاف قبل الميلاد! لاحظ أنهم دافعوا في الموضع السابق عن أنه خُلقت الخليقة عام -الخليقة الكون كله وليس آدم- أربعة آلاف قبل الميلاد أو حول ذلك، والآن نجد أن الطوفان الذي في أيام نوح -ويذكرون أن بينه وبين آدم آماد بعيدة- يفترضون أنه عام سبعة آلاف قبل الميلاد!ويؤكدون ذلك في الأخير ويقولون: يمكن القول بأن الطوفان حدث قبل ميلاد المسيح بنحو ستة أو سبعة آلاف سنة. هذا خلاصة ما قرروه في هذا الشأن.فلذلك هناك إشكالية كبيرة في القصة كما وردت في التوراة ، وكما جاءت من الناحية التاريخية بمعنى متى حدث الطوفان؟! فضلاً عن قضية الإشكالات التي أثيرت حول هل كان عاماً وشمل أهل الأرض جميعاً أم شمل بعضهم؟! هل كانت الفُلْك بهذا الحجم أو ذاك؟ قضايا تفصيلية فرعية ليست مؤثرة كثيراً في الموضوع؛ لكنها تدل على التناقض، وما ذُكر أيضاً في بعض الأوصاف والتي مع الأسف نقلها أيضاً المسلمون ضمن الإسرائيليات التي أُخذت إلى بعض كتب التفسير تفاصيل لا علاقة لها بالحقيقة ولا يدل عليها أي دليل.إنما بهذا القدر من القصة التوراتية يكتفي العلماء بالقول بأن هذه القصة تدل على أن هذه النصوص غير محققة وأنها غير دقيقة.على سبيل المثال: نحن نعرف الطبيب المشهور موريس بوكاي الذي كتب كتابه المشهور: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة , من هذه القضية ومن أمثالها يقرر أن رواية التكوين أو سفر الخليقة من التوراة عن الطوفان وعن الأجيال ما بين نوح وإبراهيم عليه السلام؛ لا يمكن أن تكون حقيقية، وليست فقط الأخطاء مقصورة على التوراة ؛ بل إن إنجيل لوقا لما ذكر نسب المسيح عليه السلام أخطأ أيضاً في ذلك؛ بل إنه خالف وزاد الخطأ فأصبحت الأخطاء مضاعفة ومتراكمة، -وهنا نذكر بأن حتى الذين ينسبون للنبي صلى الله عليه وسلم ويتعدون معد بن عدنان إلى إبراهيم عليه السلام، ثم يتعدون إلى آدم أن هذا خطأ هو منقول عن أهل الكتاب, ونحن نرفض الخطأ أينما وجد هنا أو هنا؛ لأنه بدون علم وبدون يقين, وقد نقلنا الآثار في ذلك فيما سبق.إذاً يكفي فعلاً أن يشك الشاك في هذه القصة كما وردت في التوراة وأن يتردد فيها، إلا أن يخرج بخلاصة مجملة لها كما فعل الأستاذ رشيد رضا رحمة الله تبارك وتعالى عليه في هذا الشأن.