هناك أمران -لأننا حقيقة مضطرون أن نضغط الموضوع وليس هذا مجالنا- أديا إلى انهيار النظرية الداروينية:
الأول: يتعلق بالشكل. والثاني: يتعلق بالأعماق ثم بعد ذلك عوامل أخرى.
المتعلق بالشكل أنهم اكتشفوا أو تأكد لديهم أن هناك أجيالاً بشرية تمثل شكلاً لا يمكن أبداً أن يكون ناشئاً أو متطوراً عن القردة ولا عن غيرها، وهم: العمالقة!
مع الزمن بين حين وآخر، إما من خلال القبور العملاقة -هي قبور عظيمة جداً- وإما من خلال الثلوج يُكتشف بشر عمالقة كما جاء في الكتب القديمة أو ربما أكبر من ذلك، وهذه الحقيقة سنقرّرها إن شاء الله من خلال الأدلة النقلية، ونتحدث عنها إن شاء الله من خلال قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً واستمر الخلق ينقص..) كما جاء في الحديث.
فالقضية ليست في الشكل الذي ربما يقال ما بين الإنسان في بعض المناطق وشكل القردة، هناك عمالقة من البشر لا يشبهم على الإطلاق أي حيوان, ولم يوجد أي عملاق من الحيوان يشبه هؤلاء العمالقة على الإطلاق.
هذا في الشكل والمظهر فقط؛ لكن ما هو أعمق وأهمّ من ذلك ما يتعلق بالمورّثات أو الجينات الناقلات للوراثة، لم يكن داروين ولا الجيل الذي بعده قد اكتشفوا أو عرفوا هذه الناقلات وهذه الجينات، ولا هذا العلم، هو علم حديث جديد آخر ما اكتشف فيه -ولا يزال تحت البحث حتى الآن- هو الرمز أو ما يسمى الشفرة أو الكود الوراثي، الذي من خلاله يريدون الآن أن يعالجوا بعض الأمراض الوراثية, وأن يتقدموا بالعلم البشري، كما أعلن ذلك الرئيس الأمريكي قبل بضع سنوات, وأن هذا -كما كتب له العلماء- يعتبر أكبر اكتشاف علمي تحقق في القرن العشرين، وربما يستمر كذلك في القرن الحادي والعشرين.
المقصود أن هذا علم عظيم جداً متعلق بالوراثة وعلم الهندسة الوراثية لم يعرف من قبل، ولم يكن لدى داروين وأتباعه أي تصور عنه.
هناك أيضاً قضايا أخرى تطورت بعد داروين وهي علوم اللغة وعلوم الدلالة، من المتفق عليه أن الحضارة واللغة مترابطتان، وهذا أمر مهم جداً سنرى أثره عندما -إن شاء الله- نتكلم عن الوحي المحفوظ، وكيف ربط بين هاتين القضيتين: (( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ))[البقرة:31].
المقصود أن اللغة مرتبطة بالحضارة، والحضارة مرتبطة باللغة، فإذا وجدنا إنساناً ينطق -فضلاً عن أنه يكتب- فمعنى ذلك: أنه بالفعل هناك حضارة.
الواقع البشري أن اللغة والكتابة تكاد تكون ميزة بشرية فريدة بالإجماع -نقول: تكاد لأنه لا يزال من يخالف في هذا- المدرسة القوية الصوت في العالم التي من أقطابها نعوم تشومسكي تقول بهذا؛ أن اللغة سمة بشرية فريدة لا نظير لها على الإطلاق في عالم الحيوان بأي شكل من الأشكال؛ لأن اللغة تقوم على ركنين: -باختصار أيضاً لا نطيل في هذا- الركن الأول: المخالطة؛ فلو طفلاً وضع في غرفة وأغلق عليه سنين طويلة فإنه لا ينطق، بالمخالطة يكتسب الإنسان اللغة، لكن هناك ما هو أهم من المخالطة وهو قابلية النطق, الإمكانية، التفكير الكامل في الإنسان الذي يجعله ينطق ويتكلم ويفهم.
نوضح هذا بمثال: أحد علماء اللغة قيل له: إن اللغة اليابانية صعبة فأراد أن يتعلم اللغة اليابانية ويقارنها ببعض اللغات، فذهب إلى اليابان واصطحب معه أسرته، واستمر يبحث عدة سنوات في اللغة اليابانية، يقول: عجزت عن استيعاب قواعدها أو عن فهمها كما يفهما أي ياباني! لكن المفاجأة كانت من طفله؛ كان عمره أربع سنوات؛ فإذا بذلك الطفل ينطلق ويتكلم مع الأطفال اليابانيين وكأنه ياباني! وإذا في ذاكرة الطفل التي لا يدري عنها شيئاً ولا حتى يدري عنها أبوه نظام وقواعد للغة اليابانية المعقدة الصعبة.
وبذلك كان هذا العالم ممن انضموا إلى نعوم تشومسكي وقالوا له: إن هذا بالفعل يؤكد أن اللغة سمة بشرية متفردة, والبحوث اللغوية تؤيد ذلك، فلا وجود لمشابهة أو مشاركة بين الإنسان وبين أي حيوان آخر في هذا الشأن.
ولذلك نجد أن تشومسكي كم مرة يتحداهم ويقول: خذوا أي قرد أو خذوا أي ببغاء وعلموه عقوداً أو قروناً كما تشاءون، ثم ائتوني بها وقد تكون لديها شيء من التفكير أو شيء من المقدرة اللغوية, أما أن تردد بعض الحروف أو بعض الكلمات ترديداً فهذا لا يدل على اللغة على الإطلاق.
طبعاً الطرف الآخر اشتط في العداوة وقالوا: لأن نعوم تشومسكي يهودي -طبعاً هو كذلك- ولأنه يؤمن بـ التوراة ويؤمن بكلام أرسطو وما أشبه ذلك من التهم؛ فأصبح كأنها داروينية ومعركة داروينية جديدة؛ لكنها حول النطق وعدم النطق، مع أنه ليس بالضرورة أن الذين يرون أن اللغة ليست سمة بشرية أنهم يؤمنون بنظرية داروين على أية حال؛ لكن نحن نأتي بها في سياق أن علوم اللغة أثبتت هذه الميزة العظيمة؛ التي ميز الله تبارك وتعالى بها الإنسان منذ أول ما خلقه (( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ))[البقرة:31].
تأتي قضية أيضاً الكتابة؛ أهمية الكتابة وكون الكتابة مبنية على اللغة وكون الإنسان يكتب، يمكن أيضاً أن نعيد نفس الكلام فنقول: ائتونا بأي حيوان في التاريخ كتب شيئاً أو رسم لوحة فنية ولو كانت بدائية, أو عمل أي عمل يدل على أن بإمكانه أن يكتب! فأيضاً هذا يؤكد من جديد أن الإنسان إن كان أمياً ينطق، وإذا كان يكتب فهو أعقد بكثير وأبعد بكثير جداً من أن يكون ذلك شيئاً مشتركاً بينه وبين أي حيوان من الحيوانات التي خلقها الله تبارك وتعالى.
فيتميز الإنسان مع ذلك أيضاً بالكتابة, سبحان الله تعالى: (( الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ))[العلق:4-5], ولولا ذلك لما نُقلت الحضارات, ولما نقل العلم، ولما كانت هذه الطريقة العظيمة من التواصل البشري التي هيأ الله تبارك وتعالى بها للناس نعماً لا يحصيها إلا الله، ولا يثني عليه تبارك وتعالى بها إلا الأخيار الصالحون الذين يقدرون نِعم الله عز وجل، ويؤمنون بأنه فعلاً رحيم بهذا الإنسان, وأنه خلقه بهذا الشكل وبهذه الصفات والخصائص المميزة؛ لأمر عظيم وحكمة جليلة؛ وهي أن يعبد الله وحده لا شريك له.
هناك أيضاً أمور كثيرة -لا نطيل فيها- لكن تدل على أن الإنسان متميز تماماً، منها: الأسرة والحالة الأسرية، وفرق هائل جداً ما بين الإنسان وما بين غيره في هذا الأمر.
هناك أيضاً وضع الدين وهو أعظم وأسمى، نجد الشعور بالمعبود والتقرب إليه، والتأله، والتضرع، هذه من الخصائص البشرية المميزة جداً التي لا نكاد نجدها عند العالم الحيواني.
هناك أيضاً تكوين المجتمع وتكوين الدولة، فنحن نجد أن الحيوانات التي تعيش في قطعان هي في قطعان كما كانت وكما عرفت منذ أقدم العصور، بينما الإنسان يطور بشكل دائم البيئة التي يعيش فيها، يطور علاقته الاجتماعية وعلاقاته الأسرية، ويغير في معتقداته ومعبوداته إما بالاهتداء والاقتداء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وإما بالانحراف إذا أضلته الشياطين.
الفن كما أشرنا هو أحد معالم ما يميز الإنسان عن الحيوان في هذا الجانب، وكذلك التطلع الدائم للأمام, والتطلع للتقدم وللتفوق، ومحاولة تطوير ذاته، بمعنى: أنه مهما قيل عن القردة بأنها ذكية، أو مهما كانت الثعالب؛ فإننا نجد أن طريقتها في الحياة وتسلقها للأشجار أو حفرها للجحور لم تتغير! أو سباحتها في المياه لم تتغير!
أما الإنسان فهو أينما وجد حريص على التطوير وعلى التغير؛ يشتاق إليه ويتطلع إليه، فلا نتصور أن مجموعة من القردة تجتمع وتبني قارباً يقوده أحدهم وهو يجدف به على النهر! منذ قديم العصور وهي تقفز فوق الأشجار ولم تبن مدينة أو ترصف طريقاً وتعبده لمجيئها وهكذا.
أما الإنسان فإنه لديه هذه القابلية، ولديه هذه الإمكانية؛ سواء فعلها بالفعل أو أنها موجودة لديه بالقوة، فهو على أية حال هي كامنة فيه، وهي موجودة فيه منذ أقدم العصور، ولا يستطيع أحد أن يقول: أنه نشأ على غير ذلك, ثم -كما قرأنا في كلام غلّاب وغيره- أن البيئة أثرت فيه، وهو أثر في البيئة، بمعنى: أن الطعام جعل المخ يكبر أو جعل الفك يغلظ أو ما أشبه ذلك، كله كلام ليس عليه أي دليل على الإطلاق, وإنما الواضح هو التميز والتفرد الذي ميز الله تبارك وتعالى به الإنسان.
من هنا نستطيع القول: إن الحضارة البشرية نشأت مع نشأة الإنسان، ولكنها تختلف في أدواتها وفي مراحلها، وتختلف في مقدرة الإنسان على تطويع بعض الأمور أو عدمه بما وهبه الله تبارك وتعالى، وتختلف أنها قدر ترتفع في الرقي المادي وقد تنزل، فقد ترتفع فيما هو أهم من ذلك وهو الدين والتوحيد وترتقي فعلاً، وقد تهبط إلى مستوى الضلال والشرك والخرافة والأسطورة، كل ذلك موجود إلا أن الحضارة واللغة وخصائص البشر الأخرى -الأسرة والمجتمع والمشاعر الإنسانية- كل ذلك موجود مع خلق الإنسان عندما خلقه الله تبارك وتعالى.
هذا ما يتعلق بالفقرة الأولى, وبعد ذلك ننتقل إلى الفقرة الثانية؛ وهي الإيمان أو النظرة والتصور كما جاء في الوحي المبدل والمحرف.
أضف تعليقا
تنويه: يتم نشر التعليقات بعد مراجعتها من قبل إدارة الموقع