بغض النظر عن الرد التفصيلي لنظرية داروين نأتي فقط على لمحات تبين بطلانها، وإلا فقد كفانا العلم مئونة ذلك, والرد عليها بالمنهج العلمي يحتاج إلى لقاءات طويلة جداً، أما بمنهج الوحي ومنهج القرآن, وما قررته معظم الأديان في الجملة على خلاف التفاصيل؛ فهو خلاف ذلك تماماً، وهي أيضاً خلاف الفطرة البشرية التي فطر الله تبارك وتعالى الناس عليها.
أولاً: الداروينية بكل أحوالها لم ترقَ إلى أن تتحول إلى نظرية متكاملة سليمة؛ فهي نظرية مجازاً أو بالأصح هي فرضية، والذين جاءوا بعدها من المتعصبين لها بشدة أحدثوا ما سُمي الداروينية الجديدة، وعدَّلوا فيها كثيراً ولم ترتقِ بعد التعديلات إلى أن تكون نظرية.
الأمر الآخر: أن هناك بيئة وأفكاراً محلية أو مشاكل محلية في البيئة التي ظهرت فيها الداروينية أدت إلى أن تكون هذه المعركة الضخمة الهائلة التي يقال ربما عنها حقيقة: أنها أكبر معركة فكرية في تاريخ البشرية؛ وهي المعركة بين المؤيدين للخلق وبين القائلين بالتطور، هذه المشكلات الخاصة تختص بالدين النصراني أو الكنسي المحرف بالدرجة الأولى؛ لأن الأديان الأخرى التي لا تؤمن بعقيدة الخطيئة الأصلية تؤمن بآدم عليه السلام على أنه أول البشر، ولا يكاد يترتب على ذلك أمر عقدي، أما الدين الكنسي بعد أن حرف وبدل على يد بولس في القرن الأول الميلادي، فإنه يعتمد اعتماداً أساسياً على الخطيئة الأصلية، والخطيئة الأصلية هذه الموروثة الذي فعلها آدم، وإذا كان آدم قد ارتكب وفعل الخطيئة -كما يعتقدون- فإن أي شيء يمس وجود آدم أو يشكك في وجوده كما ذكر في التوراة ؛ فإن ذلك يعني بطلان أو انهيار العقيدة النصرانية جملة وتفصيلاً؛ وهذا الذي حصل فعلاً في التاريخ.
فكثير من الناس حتى أن بعض المسلمين مثل الشيخ: نديم الجسر رحمه الله, ومن كان في عصره، لم يأخذوا الأمر أكثر من كونه نظرية قابلة لأن تتعايش ولو جانباً بشيء ما مع الوحي، إذا افترضنا أن الخالق سبحانه وتعالى هو الذي جعل الإنسان يرتقي أو يتطور في مراحل من التطور! لا إشكال في ذلك؛ لكن بالنسبة للعقيدة النصرانية الأمر -كما قلنا- يرتبط بأصل الاعتقاد الذي لا يمكن أن يكون النصراني نصرانياً إلا بالإيمان به، وهو الخطيئة الأصلية الموروثة التي ارتكبها في نظرهم آدم.
ولذلك كثير من العلماء بعد أن تحرروا من قبضة الكنيسة, وبعد أن وجدوا أنفسهم يتجرءون عليها في عقائد كثيرة جداً، وكأن داروين ألهمهم السلاح الذي به يقضون عليها قضاء مبرماً؛ نجد أن التعصب وصل بهم إلى القول: أننا لا يمكن أن نفرط في نظرية التطور بل نؤمن بها. فقال بعضهم: لأنه لا بديل عنها إلا الخلق المباشر وهذا غير معقول.
فقد استبعدوا استبعاداً مباشراً في فكرهم أن يؤمنوا بنظرية الخلق المباشر, وأن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان؛ ولذلك يتشبثون بها حتى لو ضعفت, وحتى وإن هزلت, وحتى وإن ظهر زيفها لسبب نفسي ذاتي، وليس لقضية علمية أو دليل عقلي. ومن هنا ليكونت دي نوي -وهو مفكر عالمي تلميذ ألكسيس كاريل صاحب الإنسان ذلك المجهول- يقول: إن الاضطهاد والطغيان والاستبداد لم ينتهِ ولكنه انتقل إلى الطرف الآخر, يعني: انتقل من اضطهاد الكنيسة للعلماء إلى اضطهاد العلماء لرجال الدين أو الفكر الديني، فهو اضطهاد وتعصب فقط انتقل من طرف إلى طرف، وكما قال بعضهم: إن العلم أصبح بقرة مقدسة، كما أن الإنسان الهندي قد يكون عالم ذرة, أو قد يكون عالم فلك, أو قد يكون مهندس كمبيوتر, أو قد يكون ذا عقل في أي مجال، ولكنه مع ذلك يقدس البقرة ولا يفرط فيها -الهندي الملتزم بدينه طبعاً.
فنجده يقول: هكذا الأمر الآن تقديس هذه النظريات أشبه بتقديس البقرة, ليس لصحتها ولا لضرورتها، ولكن لأن هذا أمر ألفوه وتعودوه, ولا يريدون الانتقال إلى البديل الآخر.
أضف تعليقا
تنويه: يتم نشر التعليقات بعد مراجعتها من قبل إدارة الموقع