نحن نشاهد في هذا المنهج أنه لا يفترض مطلقاً أن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق الإنسان، -قد لا ينفونه لكن لا يفترضونه- ولا يفترضون مطلقاً أن الإنسان له دين أرقى وأسمى من الحياة المجردة، وأن هذا الإنسان له مشاعره وله إنسانيته وله روح في هذا البدن؛ وأنه مكوّن من الروح ومن البدن العضوي المشاهد، وغير ذلك من الأمور التي هي في الحقيقة لا أصل لها علمي وإنما هي افتراضات أو ظنيّات، أو هكذا أقيمت اعتباطاً بناء على المعركة الطويلة والعنيفة التي دارت في
أوروبا بين العلم والدين، أو النظريات اليونانية القديمة التي كانت تصور الإله فيها -الخالق تبارك وتعالى- محدوداً أو ضيقاً، أو يجعلونه بعيداً عن حقيقة الكون وتدبير أمور هذا الكون -وهذا ما سنعرض له إن شاء الله في حلقات قادمة.ملخص هذه النظرية -كما رأينا في الحلقة الماضية- أن الإنسان بدأ بدائياً همجياً في التفكير وفي التعامل مع البيئة وفي طريقة المعيشة وفي طريقة الحياة، وأنه كان ساذجاً تماماً, فهو لا يملك إلا اليدين اللتين ليس فيهما أية أداة، ويتأمل في هذا الكون ويمشي, فاعتمد في مراحل طويلة من حياته -بناء على كلامهم- على مجرد التقاط الثمر المتساقط في الأرض, أو الصيد أو الرعي. مراحل طويلة جداً كما يعتقدون، وقد قسمت العصور الحجرية في الحقيقة إلى أقسام كثيرة لا داعي لذكرها, وهي كلها محصورة ضمن أحقاب زمنية -الحقبة القديمة والوسطى والحديثة- لكن كلها أقسام لا حاجة للإطالة فيها؛ لأنها كما سوف نرى افتراضات لا تقوم على حقيقة.المقصود أن مراحل طويلة جداً قبل أن ينتقل الإنسان إلى مرحلة الزراعة, ومن ثم تبدأ عنده مسألة الكتابة، وهم يعتبرون الكتابة هي أهم فاصل ومعلم بين عصر ما قبل التاريخ وعصر التاريخ، وبين ما قبل الحضارة وعصر الحضارة.لا شك أن الكتابة تطور حضاري مهم جداً؛ لكن نحن دائماً نرجع للأصل هل بالفعل كان الإنسان كذلك؟! أو بناء على أي أمر, وبناء على أي دليل بنيتم أنه كان كذلك ثم تعلم الكتابة؟!المفترض الواضح الذي جاءت به الأديان جميعاً أن الإنسان في مرحلة الرعي، أو المجتمعات البشرية التي لم تكتب أو لا تكتب؛ أنها انحطاط عن مرحلة قبلها كانت فيها متعلمة, أو كان الأصل فيها التعلم.كما أن الأصل كان التوحيد ثم وقعت في الشرك والخرافة والأساطير؛ فكذلك الأصل هو أنها متعلمة ومتحضرة وتزرع ثم تنحط، وكم شَهِدنا وكم رأينا من مجتمعات في القديم وفي التاريخ المكتوب كانت حضارية ثم انتقلت إلى الرعي، انحطاط وتقهقر حضاري من مدنية راقية أو إمبراطورية واسعة إلى مجتمعات رعي، وهذا شيء مشاهد.