المادة    
  1. حل القرآن إشكالية الأخطاء التاريخية في الكتاب المقدس ومشاركة علماء المسلمين في ذلك

    نرجع بعد هذه المقدمات البسيطة إلى صميم الموضوع, وهو موضوع متى نشأت هذه الخليقة البشرية, وكيف أدى ذلك إلى إشكالية فكرية خطيرة جداً أدت إلى انفصام هائل بين العلم وبين الدين في أوروبا ، وكيف أن هذا القرآن الحكيم في بضع آيات قد لا يأبه لها كثير من الناس حلَّ هذا الإشكال بأبسط صورة, وأزال الإشكال ولله الحمد.
    على سبيل المثال: في التاريخ الأوروبي الحديث في مطلع عصر التنوير -كما يسمونه في أوروبا القرن الثامن عشر- نشأت معارك فكرية حول قضية القيمة التاريخية للتوراة , وحقيقة أن أول من دعا إلى هذا وبشكل واضح وتبناه هو مجموعة من العلماء المتأثرين بالمسلمين في الأندلس ؛ الذين هاجروا بعد الاضطهاد الكاثوليكي للعلماء اليهود الأندلس وغيرهم إلى أوروبا الغربية.
    منهم على سبيل المثال المفكر المشهور سبينوزا الذي هاجر إلى هولندا وغيره من هؤلاء, قرءوا كلام ابن حزم رحمه الله؛ بل بعضهم يقول بصريح العبارة: إن ابن حزم هو أول من نبه إلى قضية الأخطاء التاريخية في الكتاب المقدس.
    المقصود: أن هناك تأثيراً من المسلمين في تصحيح هذه النظرة, وإقلاق الكنيسة ورجال الدين حول مدى حجية ومصداقية الكتاب المقدس، أعقب ذلك مشكلة فكرية هائلة جداً كما سوف نرى.
  2. منشأ إشكالية أخطاء الكتاب المقدس في تحديد نشأة الخلق

    لنأتي إلى صميم الموضوع مباشرة.. ما هي المشكلة؟
    المشكلة أنه وفقاً لما تحدده التوراة فإننا نجد أن هناك تحديداً قاطعاً لتاريخ خلق الله تبارك وتعالى آدم, ومتى حدث الطوفان, ومتى ولد نوح ومتى توفي, ومتى ولد إبراهيم.. إلى آخره, تحديداً قاطعاً في هذه القضايا.
    وذلك أنهم حسب ما رأت الكنيسة -وهو المشهور في ذلك- وما كتبه الأسقف آشر ، وكان يُكتب على هوامش نسخ من الكتاب المقدس: هو أن الكون خلق عام 4004 قبل الميلاد! الكون كله، وبالذات آدم عليه السلام؛ لأنها كلها في أيام متلاحقة, وهذا يعني: أنه قبل ميلاد المسيح عليه السلام بحوالي 4000 سنة خُلق كل شيء.
    فالذي أدى إلى الشك في هذا هو أنه إذا كان هذا حدث فعلاً؛ فلماذا عندما نقرأ التاريخ اللاديني -التاريخ الآخر الذي كتبه العلماء والمؤرخون- نجد فرقاً هائلاً كبيراً جداً بينهما؟
    الحل كان في أول الأمر سهل، وهو أن يقال: إن التاريخ الديني هو الحق، ولا يتصور الإشكال, ولا يتصور خلاف! لأن ما قاله الله هو الحق, وما في التوراة هو الحق, وما سواه كله باطل، وقد دافعت الكنسية فترة عن هذه القضية بهذا الدفاع.
    لكن بعد فترة تبين أن الأمر مقلق؛ فهناك اكتشافات, وحقائق ظهرت أكثر فأكثر تدل على أن هناك آماداً وأحقاباً وقروناً كثيرة بين هذا وهذا! وأن هذا التاريخ وهذا التحديد لا يمكن أبداً أن يكون حقيقة على الإطلاق.
    لعل هنا طرفة -وهي حقيقة ولكنها طريفة جداً- حدثت في القرن العشرين!
    عندما كان الرئيس كلينتون حاكماً لولاية أركنسو -وهي من ولايات حزام الإنجيل في أمريكا- كان هناك معركة بينه وبين المنافس له، والمعركة هذه حول: هل نقرر في هذه الولاية نظرية التطور أي: نظرية الخلق, أو نقرر ما في التوراة من أن الخلق خُلق في هذا التاريخ المحدد؟ وهذا يدل على أنها قضية لم تمت, وأنها قضية حية فاعلة، وفي الكتاب الذي كُتب عن حياة كلينتون فيه تفصيل لهذه القضية، وكيف أن زوجته وقفت معه، ووقف اتحاد الحقوقيين الأمريكيين معه، ووقف بعض القضاة معه، حتى تأيد الحكم بألا تدرس هذه النظرية وفق التوراة وإنما تدرس وفق العلم؛ فهي قضية مشهورة جداً في الفكر الغربي، ولا تزال موجودة في أمريكا بالذات؛ لكن ربما في أوروبا اندثرت.
    على سبيل المثال: عندما تحدد التوراة فتقول:
    في العام الأول أي: عام 4004 قبل الميلاد خلق آدم.
    وفي عام 129 كثر الناس وظهر فيهم الفساد.
    وفي عام 1656 حدث الطوفان.
    وفي عام 1757 بدأ تشييد برج بابل.
    وفي عام 2083 بدأت دعوة إبراهيم.
    هل هو من تاريخ إبراهيم عليه السلام؟!
    ثم بعد ذلك بـ430 سنة أنزلت التوراة على موسى عليه السلام, يعني: كان إرسال موسى عليه السلام.
    هذه محددة بدقة، ومن ضمنها جداول التوراة التي بين أيدينا.
    وهنا للإنصاف لا بد أن يقال: إن هناك اختلافاً كبيراً بين نسخ التوراة ؛ فالحقيقة أن التوراة مختلفة النسخ في هذا، وهذا يفتح باباً للحل ولكن يفتح باباً للإشكالية!
    فلدينا جدول مثلاً يوضح لنا أن هناك ثلاث نسخ من التوراة ؛ فلدينا النسخة العبرية، ولدينا النسخة السامرية، ولدينا النسخة اليونانية، وبهذا نجد أن في النسخة العبرية بين خلق آدم عليه السلام وبين نوح ألفاً وستمائة وستة وخمسين سنة؛ لكن في النسخة السامرية نجد أن الفرق هو ألف وثلاثمائة وسبع سنين، وفي النسخة اليونانية نجد أن الفرق ألفان ومائتان واثنتان وستون سنة.
  3. حلول المؤرخين ورجال الدين الغربيين لامتداد سنين النشأة في الكتاب المقدس

    عندما اطلع الغربيون المؤرخون والعلماء من رجال الدين وغيرهم على التاريخ الحديث للعالم -التاريخ المصري القديم, وتواريخ الصين , وتواريخ الهند وبعض التواريخ العربية أيضاً- وجدوا أن هناك مشكلة؛ وهي أن هذا التاريخ يمتد آلافاً من السنين وبعضها يمتد -كما سوف نعرض إن شاء الله في لقاء قادم- إلى ملايين السنين! فكيف يكون الحل؟!
    البعض جاء ببعض الحلول؛ وهي أن نقول: إن ترتيب الأسر الملكية في مصر -أيضاً معمول لها جدول خاص بها- كالثلاثين الأسرة المصرية لم تكن متتابعة, وإنما كانت متجاورة، بحيث إن مجموع سنواتها لا يخرج أبداً عن نطاق (4004) مثلاً.
    البعض رأى حلاً آخر؛ قال: نحن نلغي النسخة السامرية والعبرية, ونأخذ باليونانية؛ لأنها تعطينا مدى حوالي ألف وخمسمائة سنة؛ فبذلك نجعلها هي الأرجح ونعتمدها؛ لكن هذا لا يطول؛ بل بعد فترة تكون فروقاً هائلة جداً!
    ومن أجمل الطرائف في هذا الباب أن بعضهم قال: إن التوراة ليست خطاباً علمياً دقيقاً، فهم إذا قالوا: عام كذا يحذفون الكسور، ثم يتجمع لنا من الكسور ما يمكن أن يسد الفجوة..
    هذه حلول أرادوا أن يؤولوا بها هذا الاختلاف؛ لكن الخرق اتسع على الراقع، وابتعدت القضية جداً, وصارت بالفعل مشكلة عويصة ومشكلة كبيرة في تاريخ الفكر؛ فكان لا بد من أن تحل هذه المشكلة الخطيرة.
  4. الإشكاليات التي أدت إلى كثرة الأخطاء التاريخية في الكتاب المقدس

    إذا أردنا أن نُرجع الأمر إلى أصوله في هذه القضية عندنا إشكاليات كثيرة.
    الإشكالية الأولى: بدأت من مركزية أوروبا وعنصريتها, يعني: لا يريد علماء الدين ولا علماء التاريخ وغيرهم أن ينظروا إلى التاريخ الآخر إلا باحتقار، لا يريدون أن يؤمنوا به أو يتطلعوا إليه، مع أن هناك لمحات حقيقة ممن قال لهم: لماذا لا نأخذ من القرآن؟ لماذا لا نأخذ من الإسلام؟ ولكنه رفض رفضاً شديداً.
    فهذه الإشكالية جعلتهم يتخيلون أن تاريخ العالم هو تاريخهم، ولا تزال آثار هذه العنصرية إلى اليوم، فمثلاً: إذا قيل: العالم فغالباً في الغرب أن المراد بالعالم هو العالم الغربي، العالم المتحضر، وربما مع الانفتاح والإنترنت والمعلومات الحديثة اتسع مفهوم هذا قليلاً؛ لكن إلى أمد قريب كان العالم عند الغرب هو العالم الغربي، وقولهم: ما يراه العالم, يعني: ما يراه العالم الغربي.. إلى آخره.
    الإشكالية الأخرى: الجهل, يعني: جهلهم في الاطلاع على العالم الآخر, ومحاولة النظر في هذا العلم بموضوعية أو النظر بما لديهم بموضوعية، هذا الأمر جعل الصراع داخل أوروبا يحتدم دون أن يحاولوا أن يستعينوا بمصدر خارجي، أو يتفهموا حول هذا الموضوع؛ ولكن الزمن -كما قلنا- أدى في النهاية إلى ما يشبه انتصاراً كاسحاً جداً للاتجاه اللاديني على الاتجاه الديني الذي كان يجب أن يكون هو الحق.
  5. مساعدة تنقيب المستعمرين في العالم الإسلامي على تعديل نظرتهم في التاريخ الإسلامي والغربي

    لكي نوضح أهمية وقيمة ما عدل هذه النظرة عند الغربيين، يمكن أن نطلع على أهمية اكتشاف الحضارات الأخرى التي اكتشفها الغرب.
    فمثلاً: حضارة سومر و بابل وحضارة مصر؛ فالغرب عندما اكتشفها اكتشف شيئاً مذهلاً جداً.
    هذه قصة طريفة جداً كما يقول ويل ديورانت : من أروع القصص في التاريخ, وكذلك يقول: إن اكتشاف حجر الرشيد هو من أعظم الاكتشافات في تاريخ التاريخ.
    الغربيون عندما جاءوا إلى العالم الإسلامي في العصر الاستعماري بدءوا ينقبون عن الآثار والحضارات؛ منهم من ينقب ليؤكد ما قالته التوراة وهذا مصرح به في كتبهم, ومنهم من ينقب لأغراض جاسوسية واستخبارية، الجميع كان له لا شك أهداف سياسية, وقد يوجد من له أهداف علمية بالإضافة إلى هذا؛ لكنه جاء ممولاً من حكومته ليخدم هذه الأهداف.
    وهنا حدثت المعجزة الكبرى بالنسبة لهم وهي: أنهم اكتشفوا حضارة سومر -كما أسموها- يعني: الحضارة العراقية القديمة في نظرهم, واكتشفوا كذلك الحضارة المصرية القديمة؛ لما اكتشفت هاتان الحضارتان تغيّرت النظرة تغيراً كبيراً جداً هائلا أدى إلى انتصار وجهة النظر الأخرى وإلغائها تماماً؛ لأنه اعتبر هذا من أعظم المنجزات العلمية, ولا يزال حتى يومنا هذا يعتبر من أروع الانتصارات والانجازات العلمية.
    فلنقرأ من كلام ويل ديورانت وهو من أشهر المؤرخين لتاريخ الحضارة يقول: لقد كان كشف هذه الحضارة -يعني: حضارة العراق- من أروع القصص الروائية وأكثرها غرابة في علم الآثار، لقد كان الرومان واليونان و اليهود وهم الذين نسميهم القدماء جهلاً منا بالمدى الواسع لأحقاب التاريخ لا يعرفون شيئاً عن سومر, ولعل هيرودوت -المؤرخ اليوناني المشهور- لم يصل إلى علمه شيء عن هؤلاء الأقوام, وإن كان قد وصله شيء منهم فقد أغفله؛ لأن عهدهم كان أبعد إليه من عهده هو إلينا -المسافة هائلة جداً وذكر أنه لم يكن يعرف إلا التاريخ الأسطوري القديم الذي كان لديهم- يقول: وهكذا بعد تعاون شديد من العلماء- ذكرها أيضاً كتاب: حضارة ما بين النهرين- وبعد محاولات من عدة جهات, ومعظمهم قناصل -القنصل الفرنسي القنصل البريطاني أيضاً- استطاعوا بعد جهود طويلة مضنية أن يكتشفوا الحروف, وكيف يترجمون هذه الحروف التي كانت مكتوبة بالخط المسند القديم.
    فعندما اكتشفت هذه الحروف بدءوا يفكون الرموز والألواح، فوجدوا مكتبة طينية فيها ثلاثون ألف لوح، وهذه الألواح كثيرة, وهي منقوشات ومصكوكات، وفي هذه الثلاثين ألف لوح هناك حقائق عن ملوك عجيبة جداً, وآماد بعيدة جداً, وهذه الآماد مدهشة! حيث إن بعض الملوك يقال: إنه حكم إلى عشرين ألف سنة أو إلى ثلاثين ألف سنة، كالملوك العشرة -كما يسمونهم- وربما تترجم بالأجيال أو القرون العشرة؛ أن هناك عشرة قرون وعشرة أجيال حكمت البشرية هذه المدة الطويلة التي يمكن أن العقل لا يكاد يصدق أن تُحكم هذه المدة الطويلة, ويسمونها بـ (عصر ما قبل الطوفان)؛ فكأن قبل الطوفان وجدت هذه القرون العشرة -كما يقولون- فبدءوا ينقبون بلهف شديد، ونهم شديد -ولا يزالون إلى اليوم- للحصول على أي شيء يدل على حقيقة هذا التاريخ، وكيف أنه متوغل في القدم؟!
    وما هي الحقيقة في هذا الموضوع بالضبط؟ أين الحقيقة؟! هل التاريخ الأسطوري حق أو غير حق؟!
    هنا تاهت الأفكار وتاهت النظريات في هذا الباب؛ لكن كما يقول ديورانت: لقد تعاون العلماء من مختلف الأمم على كشف السر الغامض من تلك القصة العجيبة التي لا آخر لها, وأخذوا يتعقبون الحقائب التاريخية بلا ملل؛ تعقب الشرطة السرية للصوص المجرمين.
    وبعد ذلك طبعاً القضية بأكملها لم تخرج في النهاية بعد اكتشاف حضارة العراق وبعد اكتشاف أيضاً حجر الرشيد في مصر على يد شامبليون ، والحجر هو عبارة عن أثر كبير القيمة, وجد منقوشاً بعدة لغات، أمكن من خلال الحروف اليونانية اكتشاف الكتابة المصرية القديمة، وبذلك فُكَّت الحروف أيضاً في مصر، وقرئت حضارة مصر وتاريخها القديم، وإذا به موغل بآلاف السنين في القدم!
    فهنا أصبحت هذه القضية عند الغربيين حقائق مدهشة ومفاجئة, وأصبح العالم الغربي يفتخر دائماً بهذا، ولا يزال حتى اليوم ينقب ويبحث ويجتهد لكي يعرف حقيقة هذا العالم القديم، ولم يعد أحد -تقريباً- يصدق رواية التوراة عن خلق الإنسان, رغم الدفاع الكبير الذي تبديه بعض الكتب مثل: دائرة المعارف الكتابية التي تدافع دفاعاً حاراً، ومجموعة علماء كبار في الغرب والشرق يدافعون عن رواية التوراة بدفاعات كبيرة جداً؛ إلا أن هذا الدفاع باهت لا قيمة له أمام انتشار هذه الحقائق الكبيرة والمدهشة جداً التي كُشفت, والتي لم يعد هناك أحد يستطيع أن يماري فيها، إضافة إلى الأحقاب الجيولوجية.
    نحن -مثلاً- نشاهد مقرر علم الجيولوجيا أو علم الأرض -في مدارسنا الثانوية في المملكة وغيرها- نجد هذا العلم بدون أي شك يتكلم أن عمر الكون وعمر الأرض يُعدُّ بالمليارات، وبالتالي فإن ظهور الإنسان قديم جداً! وأن هناك أحقاباً جيولوجية متوالية، وأن بعض هذه الأحقاب يمتد عشرات وملايين السنين حتى نصل إلى العصر الذي نحن نعيش فيه الآن.
  6. التحديد التقريبي في علم الجيولوجيا لبداية وجود الإنسان والحضارة الإنسانية

    هناك معلم مهم جداً في علم الجيولوجيا يحدد لنا تحديداً تقريبياً متى وجدت الحضارة الإنسانية, ومتى وجد الإنسان بشكله الحالي -الإنسان العاقل كامل العقل- الذي نستطيع أن نقول: إنه بداية عهد آدم عليه السلام، أقرب مثال لهذا هو: العصر الجليدي؛ أن يكون الإنسان وجد وظهر على هذه الأرض في نهاية العصر الجليدي.
    بمعنى: أن العلم الحديث هو ظني, كل بحوثه ظنية؛ لكن نستطيع من هذه الفقرة فقط -وسيأتي للموضوع شرح أفضل إن شاء الله وأكثر- نقول: المثال هذا نأخذه الآن هنا نوظفه في هذا السياق وهو: أن انتهاء العصر الجليدي شهد بداية ظهور الحضارة البشرية, وظهور الإنسان العاقل -كما يقولون- كما في وضعه الحالي. ومعنى ذلك: أنه إذا أمكنا تحديد العصر الجليدي بدقة فإنه بإمكاننا أن نعرف الحقيقة.
    طبعاً ليس بالدقة التي نطلبها نحن؛ حتى التواريخ الموجودة الآن في مصر و العراق الفروق قد تصل إلى مئات السنين، ونقبل نحن هذا التاريخ وله كلام طويل؛ لكن المقصود تقريباً أن نصل إلى حقيقة في هذا الأمر.
    أحدث النظريات الموجودة الآن أن العصر الجليدي -تقريباً- ما بين عشرة آلاف إلى ثمانية آلاف سنة.
    نحن سنعتمد هذه النظرية كنظرية تقريبية, وبناء عليها نأتي؛ لأن في القرآن والسنة لم يأت تحديد قطعي، فلا حاجة إلى القطع الكلي، نحن نحتاج فقط أن نعرف هل هناك آماد وأحقاب أطول؟! أم أنها أربعة آلاف سنة قبل الميلاد؟!
    ثم بعد ذلك نحتاج أن نعرف كيف يمكن أن تكون آماداً طويلة جداً في الفهم أو في الوعي أو في الشعور الإسلامي، مع أنها في الفكر الغربي كانت مدة وجيزة وقصيرة جداً لا تكاد تذكر.
  7. تشخيص القرون الأربعة قبل الميلاد من تاريخ البشرية

    أيها الإخوة والأخوات! الحقيقة حتى الآن عرضنا عرضاً موجزاً للمشكلة، ولكن لم نأت بالحلول؛ بل بالواقع أننا فتحنا المجال لإشكالات كثيرة جداً، وهذا مقصود, والحقائق سوف نكتشفها رويداً رويداً، ونمهد لذلك ببعض الممهدات.
    لا يوجد يقين قاطع في هذه الأمور عند أهل الاكتشافات في الفكر التاريخي اللاديني، وما في التوراة رأينا أنه لا قطع فيها, ويمكن أن نفصل شيئاً من هذا فيما يتعلق بـ التوراة ؛ فمثلاً: كون نوح عليه السلام لم يمت إلا بعد ولادة إبراهيم عليه السلام مشكلة كبيرة جداً.. كيف يكون هذا؟! وغير ذلك من المشكلات التي جاءت؛ لكن نقول: لا يقين هنا ولا يقين هنا.
    نأتي بعبارة لأحد العلماء المتمكنين في هذا الباب يقول: بالنسبة للألف الأول قبل الميلاد من الممكن أن يكون هناك معرفة قطعية أو معرفة جيدة فيه, تقريباً من فترة داود وسليمان عليهما السلام إلى المسيح عليه السلام هذا شيء معلوم. الألف الثاني فيه نقاط ثابتة يمكن أن ترتبط بها حقائق, يعني: نستنتج منها حقائق أكثر.
    أما الألف الثالث فكل شيء قابل للاحتمال أصبح أقل. أما إذا انتقلنا للقرن الرابع قبل الميلاد فهو لا يكاد يكون لديهم أي شيء في هذا، لا قطعيات ولا معالم ثابتة يقينية لتحديد هذا التاريخ.
    فهنا إشكالية أنه ظني, بمعنى: أن نخرج القضية عن قضية القطع, لكن نجد أن طلابنا الآن وأبناءنا ومعلمينا في الكليات والمعاهد في أنحاء العالم الإسلامي؛ يدرسون هذه القضايا على القطع وعلى الجزم، مع أنها لا من ناحية الدين الغربي -ما جاء في التوراة- قطعية، ولا هي قطعية أيضاً حتى من ناحية علم الآثار الذي يعتمدون فيه على المصادر المادية, كالمصكوكات والنقوش والآثار التي وجدوها؛ إذاً: لا قطع في الحقيقة.
  8. الموقف من الفكر الأسطوري الناتج عن الأخطاء التاريخية في تحديد نشأة الخلق

    ثم هناك أمر آخر ننبه إليه؛ وهو أنه إذا كان هذا كذلك فهل البديل هو الفكر الأسطوري؟! يعني: هل نرجع إلى الفكر الأسطوري؟!
    عندما نعرض بعض الحقائق عن الفكر الأسطوري من كتاب: بلاد ما بين النهرين الذي ألفه دولابورت ؛ نجد أنه لا يمكن أبداً أن نعوِّل على هذا التاريخ، لا لأنه أسطوري فقط؛ بل أيضاً لما يقدم من معلومات لا تكاد تُصدق، مع أن العالم الآن بدأ يصدق بالأساطير أو بدأ يقترب من الأساطير أكثر من غيرها، أو يسد الفراغ بهذه الأساطير إلا من آتاه الله تعالى الوحي المحفوظ المعصوم، فإنه يسدُّ هذه الفجوات التاريخية الكبيرة بما هو حق, وبما هو قطعي, وبما هو موافق -والحمد لله- للفطرة، ويتمشَّى مع قوانين وسنن التاريخ والحياة.
    مثلاً: في صفحة خمس وعشرين يذكر أن العصر الأسطوري الذي اكتشف من خلال المكتبات الطينية الهائلة التي اكتشفت في جنوب العراق ؛ يشتمل هذا على اثنتين وستين مرحلة من مراحل التاريخ؛ تضم مائتين وتسعة وخمسين ألفاً ومائتي سنة، لم يكن فيها ملك واحد -يعني: تبعاً لبعض الروايات- يقول: ثم يأتي عشرة ملوك -الملوك العشرة أو القرون العشرة- فيستغرق ملكهم أربعمائة واثنتين وثلاثين ألف سنة.
    من الطريف طبعاً ومن المهم جداً أن نعرف أنك إذا أردت أن تعرف مفاتيح أي حضارة في هذه البلاد فإن عليك أن تتعلم أولاً: اللغة العربية؛ فاللغة العربية تحل لديك مشكلات كثيرة، الأسماء كلها عربية؛ ولكنها تحرف عندما تترجم فينطقون (عا) كأنها (آ) مثلاً، والخاء وما أشبه ذلك من الحروف التي لا توجد في بعض اللغات الأوربية خاصة الفرنسية والانجليزية، المقصود أن المفاتيح هي اللغة العربية القديمة التي يسمونها السامية -وهذه لها حلقات إن شاء الله نخصصها -بإذن الله تبارك وتعالى- لنبين هذا.
    إنما المقصود هنا أن أحد الملوك على سبيل المثال حكم أربعة وستين ألفاً وثمانمائة سنة على ضوء ما يقوله التاريخ الأسطوري! يعني: كيف نُصدق هذا؟! ولا يهمنا أن نأخذ بهذا أو ما نأخذ بهذا! لكن المقصود هو أن العلم -الحديث وعلم الآثار - ظن؛ لكنه قريب من الحقيقة، ويتعامل مع حقائق من الموجودات والمشاهدات، ولدينا تاريخ أساطير مع مادة أيضاً غير قابلة بأن تُصدق، وتثير لدينا مشكلة.
  9. النظرة لتاريخ النشأة بين العرب والغرب

    قبل أن نأتي بالقول الفصل من الكتاب والسنة, الشيء الذي يلفت نظر أي باحث تاريخي أن العرب أقرب إلى تصور الحقائق, يعني: حتى الأساطير العربية التي يمكن أن نسميها أساطير, أو حتى المخالفات العقدية العربية, أو حتى الأخطاء في الاعتقادات أو الأخطاء في المعقولات عند العرب؛ نجد أنها أقل، وأنها أقرب من الشطح الذي كان يشطح به الغربيون.
    وهنا ننبه إلى قضية أن أكثر الغربيين -كما ذكر ديورانت وغيره- لا يعرفون من التاريخ إلا عصر اليونان وعصر الرومان، وعلى هذا درجت أكثر الكتب التاريخية الغربية، فعندما يقولون: الحضارة البشرية أو الحضارة الإنسانية فإنهم يتكلمون عن الرومان واليونان فقط، ومعروف لدينا بما يشبه الإجماع أن اليونان الإسكندر الكبير هو الذي شهر أمرهم، فـ الإسكندر الكبير -قبل المسيح عليه السلام بثلاثة قرون وشيء, يعني: ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين تقريباً- كان الفتح الأكبر له, وتوفي في هذه الفترة؛ فهو عهد بسيط جداً، وأقدم من بحث من علماء اليونان القدامى الذين وُجد لدينا شيء من آثارهم لا يتعدون أيضاً القرن السابع قبل الميلاد، هذا عمقهم التاريخي.
    ثم أول حاكم روماني حكم وأقام دولة الرومان هو أغسطس كان معاصراً للمسيح عليه السلام, يعني: ولد المسيح عليه السلام في عصره بعد انتحار كليوبترا في مصر .
    إذاً: هو تاريخ حديث, ونظرتهم إليه حديثة جداً، وعندما يمتد هذا التاريخ من ستمائة قبل الميلاد أو ثلاثمائة قبل الميلاد ليصبح ثلاثة آلاف أو حوالي أربعة آلاف فهو يعتبر كبيراً جداً، يعتبر إنجازاً هائلاً جداً حققه العلم؛ لكن لا تزال المشكلة لديهم؛ وهي: أن تناقض النسخ التوراتية، وتداخل الأسماء التي ذكرت فيها, وعدم دقتها في تحديد المدة، بالإضافة إلى أن العصور الجيولوجية المتعاقبة والسجلات الجيولوجية والأحافير وما أشبه ذلك؛ زادت مسافات هائلة جداً أنه لا يمكن أن يكون الكون خُلق عام أربعة آلاف قبل الميلاد أو حول ذلك، وإنما ملايين؛ بل مليارات من السنين كما ذكرنا.
    نرجع للعرب, نقول: شيء جيد حقيقة أن يعلم أن التفكير لدى العرب أقرب، سواء سبب ذلك هو الوحي -لديهم مصدر من الوحي لم يشوه كثيراً- أو سبب ذلك أن العربي بفطرته بعيد عن التعقيدات المنطقية والحضارية الأخرى، أو أن التفكير العربي تفكير يميل إلى التصديق بالحقائق، ولا يتعمق كثيراً فيما لا يعرف -كلها ميزات على أية حال-.
    العرب عندهم شيء بدهي جداً في تاريخهم القديم؛ وهو: أن هناك عرباً قديمة عاربة -العرب البائدة - وهناك العرب المستعربة.
    إذا كان الأوربيون يبدأ تاريخهم من الإسكندر , يعني: قبل المسيح عليه السلام بثلاثة قرون؛ فإن العرب يبدءون التاريخ الحديث لهم بإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام! فكل العرب التي يقال لها: المستعربة, أو التي منها كنانة التي اصطفاها الله سبحانه وتعالى من بني إسماعيل، ثم اصطفى من كنانة قريشاً، ثم اصطفى من قريش محمداً صلى الله عليه وسلم، كل هؤلاء ذرية إسماعيل عليه السلام.
    وهنا يتطابق ما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في شرح كتاب الأنبياء من صحيح البخاري -أحاديث الأنبياء- أن بين المسيح وإبراهيم عليه السلام ألفين سنة, يعني: بين إبراهيم الخليل والمسيح مدة، هذه المدة طولها ألفان سنة، وكذلك تقريباً علم الآثار يؤكد هذا؛ أي: أن المدة بينهما ما بين ألف وثمانمائة إلى ألفين سنة.
    المقصود فرق هائل جداً، فلاحظ أن التاريخ الحديث للعرب الحديثة يبدأ من ألفين، بينما التاريخ كله عند الأوربيين يبدأ من ثلاثمائة قبل الميلاد -التاريخان كلاهما-.
    وهذا فرق كبير جداً في طريقة التفكير، وفي تناول الموضوعات, وبالتالي نحن المسلمين عندما نتكلم عنها نجد بديهية؛ فإذا تكلم أحد عن عاد وعن ثمود وهي من العرب البائدة فإن ذلك عادي جداً! ولو قال أحد: يمكن أن يكون تاريخها سبعة آلاف سنة أو ثمانية آلاف سنة أو خمسة آلاف سنة؛ فإذن ذلك ممكن, فليس في الأمر غرابة، ولا يثير أي إشكال.
    بمعنى آخر: أن الطفل المسلم الذي لم يبلغ حتى المرحلة الابتدائية -وهذا من أيام نزول القرآن إلى الآن- هذا الطفل يقرأ سورة الفجر مثلاً: (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ ))[الفجر:6-10].
    هنا ترتيب تاريخي وحقائق وعجائب في جزء عم, وقصة أصحاب الفيل، فعندما يعرفها هذا الطفل المسلم أو العامي البدوي من المسلمين، ونحن نعلم أن أكابر العلماء الأفذاذ -كما قرأنا كلام بعضهم- اعتبروا معرفة أن هناك حضارة تمتد إلى ألفين سنة أو أكثر، وعندما اكتشفوا ما في جنوب العراق واكتشفوا حجر الرشيد؛ اعتبروا هذا فتحاً هائلاً جداً، وفخروا به، ولا يزال المتعمقون في هذا العلم في أمريكا و أوروبا يعتبرون من المتخصصين النادرين والعباقرة الكبار، وهناك مؤسسات مثل مؤسسة روكفلر مثلاً تنفق ملايين من الدولارات من أجل الكشف عن هذه الآثار, وإمداد هؤلاء العلماء والباحثين بهذه المبالغ والإمكانيات؛ لأنهم يرون أهمية كشف هذا الأمر.
    أقول: نحن حتى الآن لم نأت على النظرة الإسلامية لهذه الأمور، بل نحن فقط نقارن بين النظرة العربية العادية التي يراها البدوي العادي, والتي يراها العربي العادي حتى قبل الإسلام؛ فنجد أن هناك فرقاً كبيراً في المدى التاريخي.
    وعندما نقول ذلك فمعناه: أن الأمة التي مداها التاريخي أوسع وأعمق؛ هي أعمق فكراً، وأبعد نظراً، وأصدق في رؤيتها للأحداث، وفي سير الأمور، وفيما يمكن أن يستفيده الإنسان ويتعلمه من التاريخ، وهو الشيء الكثير جداً جداً.