لكي نوضح أهمية وقيمة ما عدل هذه النظرة عند الغربيين، يمكن أن نطلع على أهمية اكتشاف الحضارات الأخرى التي اكتشفها الغرب. فمثلاً: حضارة سومر و بابل وحضارة مصر؛ فالغرب عندما اكتشفها اكتشف شيئاً مذهلاً جداً. هذه قصة طريفة جداً كما يقول ويل ديورانت : من أروع القصص في التاريخ, وكذلك يقول: إن اكتشاف حجر الرشيد هو من أعظم الاكتشافات في تاريخ التاريخ.الغربيون عندما جاءوا إلى العالم الإسلامي في العصر الاستعماري بدءوا ينقبون عن الآثار والحضارات؛ منهم من ينقب ليؤكد ما قالته التوراة وهذا مصرح به في كتبهم, ومنهم من ينقب لأغراض جاسوسية واستخبارية، الجميع كان له لا شك أهداف سياسية, وقد يوجد من له أهداف علمية بالإضافة إلى هذا؛ لكنه جاء ممولاً من حكومته ليخدم هذه الأهداف.وهنا حدثت المعجزة الكبرى بالنسبة لهم وهي: أنهم اكتشفوا حضارة سومر -كما أسموها- يعني: الحضارة العراقية القديمة في نظرهم, واكتشفوا كذلك الحضارة المصرية القديمة؛ لما اكتشفت هاتان الحضارتان تغيّرت النظرة تغيراً كبيراً جداً هائلا أدى إلى انتصار وجهة النظر الأخرى وإلغائها تماماً؛ لأنه اعتبر هذا من أعظم المنجزات العلمية, ولا يزال حتى يومنا هذا يعتبر من أروع الانتصارات والانجازات العلمية.فلنقرأ من كلام ويل ديورانت وهو من أشهر المؤرخين لتاريخ الحضارة يقول: لقد كان كشف هذه الحضارة -يعني: حضارة العراق- من أروع القصص الروائية وأكثرها غرابة في علم الآثار، لقد كان الرومان واليونان و اليهود وهم الذين نسميهم القدماء جهلاً منا بالمدى الواسع لأحقاب التاريخ لا يعرفون شيئاً عن سومر, ولعل هيرودوت -المؤرخ اليوناني المشهور- لم يصل إلى علمه شيء عن هؤلاء الأقوام, وإن كان قد وصله شيء منهم فقد أغفله؛ لأن عهدهم كان أبعد إليه من عهده هو إلينا -المسافة هائلة جداً وذكر أنه لم يكن يعرف إلا التاريخ الأسطوري القديم الذي كان لديهم- يقول: وهكذا بعد تعاون شديد من العلماء- ذكرها أيضاً كتاب: حضارة ما بين النهرين- وبعد محاولات من عدة جهات, ومعظمهم قناصل -القنصل الفرنسي القنصل البريطاني أيضاً- استطاعوا بعد جهود طويلة مضنية أن يكتشفوا الحروف, وكيف يترجمون هذه الحروف التي كانت مكتوبة بالخط المسند القديم. فعندما اكتشفت هذه الحروف بدءوا يفكون الرموز والألواح، فوجدوا مكتبة طينية فيها ثلاثون ألف لوح، وهذه الألواح كثيرة, وهي منقوشات ومصكوكات، وفي هذه الثلاثين ألف لوح هناك حقائق عن ملوك عجيبة جداً, وآماد بعيدة جداً, وهذه الآماد مدهشة! حيث إن بعض الملوك يقال: إنه حكم إلى عشرين ألف سنة أو إلى ثلاثين ألف سنة، كالملوك العشرة -كما يسمونهم- وربما تترجم بالأجيال أو القرون العشرة؛ أن هناك عشرة قرون وعشرة أجيال حكمت البشرية هذه المدة الطويلة التي يمكن أن العقل لا يكاد يصدق أن تُحكم هذه المدة الطويلة, ويسمونها بـ (عصر ما قبل الطوفان)؛ فكأن قبل الطوفان وجدت هذه القرون العشرة -كما يقولون- فبدءوا ينقبون بلهف شديد، ونهم شديد -ولا يزالون إلى اليوم- للحصول على أي شيء يدل على حقيقة هذا التاريخ، وكيف أنه متوغل في القدم؟!وما هي الحقيقة في هذا الموضوع بالضبط؟ أين الحقيقة؟! هل التاريخ الأسطوري حق أو غير حق؟! هنا تاهت الأفكار وتاهت النظريات في هذا الباب؛ لكن كما يقول ديورانت: لقد تعاون العلماء من مختلف الأمم على كشف السر الغامض من تلك القصة العجيبة التي لا آخر لها, وأخذوا يتعقبون الحقائب التاريخية بلا ملل؛ تعقب الشرطة السرية للصوص المجرمين.وبعد ذلك طبعاً القضية بأكملها لم تخرج في النهاية بعد اكتشاف حضارة العراق وبعد اكتشاف أيضاً حجر الرشيد في مصر على يد شامبليون ، والحجر هو عبارة عن أثر كبير القيمة, وجد منقوشاً بعدة لغات، أمكن من خلال الحروف اليونانية اكتشاف الكتابة المصرية القديمة، وبذلك فُكَّت الحروف أيضاً في مصر، وقرئت حضارة مصر وتاريخها القديم، وإذا به موغل بآلاف السنين في القدم! فهنا أصبحت هذه القضية عند الغربيين حقائق مدهشة ومفاجئة, وأصبح العالم الغربي يفتخر دائماً بهذا، ولا يزال حتى اليوم ينقب ويبحث ويجتهد لكي يعرف حقيقة هذا العالم القديم، ولم يعد أحد -تقريباً- يصدق رواية التوراة عن خلق الإنسان, رغم الدفاع الكبير الذي تبديه بعض الكتب مثل: دائرة المعارف الكتابية التي تدافع دفاعاً حاراً، ومجموعة علماء كبار في الغرب والشرق يدافعون عن رواية التوراة بدفاعات كبيرة جداً؛ إلا أن هذا الدفاع باهت لا قيمة له أمام انتشار هذه الحقائق الكبيرة والمدهشة جداً التي كُشفت, والتي لم يعد هناك أحد يستطيع أن يماري فيها، إضافة إلى الأحقاب الجيولوجية.نحن -مثلاً- نشاهد مقرر علم الجيولوجيا أو علم الأرض -في مدارسنا الثانوية في المملكة وغيرها- نجد هذا العلم بدون أي شك يتكلم أن عمر الكون وعمر الأرض يُعدُّ بالمليارات، وبالتالي فإن ظهور الإنسان قديم جداً! وأن هناك أحقاباً جيولوجية متوالية، وأن بعض هذه الأحقاب يمتد عشرات وملايين السنين حتى نصل إلى العصر الذي نحن نعيش فيه الآن.