المادة    
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها الإخوة والأخوات! فإن الله تبارك وتعالى لما خلق الإنسان كرّمه، وأعطاه من المواهب والعلم ومن إمكانية الوصول إلى الحقيقة ما فضله به على كثير ممن خلق تبارك وتعالى.
فأعطاه إمكانية أن يعرف الحقيقة، وأن يبحث عنها، وأن يهتدي إليها: (( أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ))[طه:50].
  1. تميز الإنسان بالتطلع الدائم للمعرفة

    لذلك نجد أن أعظم ما يميز الإنسان عن الحيوان هو حب المعرفة الدائم الذي يدعوه إلى أن يتعرف ويسأل ويبحث، فمهما نال من العلم فهو منهوم لا يشبع من أجل معرفة الحقيقة، ولا سيما في القضايا الخطيرة المهمة. على سبيل المثال: من الأشياء التي تشد ذهن الإنسان وتستدعي عقله وتفكيره في كل العصور وفي كل البلدان وأياً كان مستواه العلمي أو الثقافي قضية هذا الكون! كيف نشأ؟! وكيف وجد؟! ومن خلقه؟! وهذا الجنس البشري نفسه! متى وجد؟! وكيف نشأ؟! ثم الحضارة البشرية التي هي بالمفاهيم الحديثة كيف نشأت؟! وهذه القضايا الثلاث هي من أهم القضايا التي درج الفكر التاريخي طوال العصور على بحثها ومناقشتها.
  2. إرسال الله رسله لتعليم الناس طريق المعرفة اليقيني

    والله تبارك وتعالى أنزل الكتب، وأرسل الرسل، فعلموا الناس طريق المعرفة اليقيني القطعي الذي هو الوحي؛ ليعرفوا هذه الحقائق، وهذه النتائج.
    لكن في عصور كثيرة إما أن تحرَّف الكتب, وإما أن يندرس العلم, وإما أن يكفر بها الناس فلا يؤمنون، فتأتي مصادر أخرى للمعرفة عن هذه القضايا وغيرها؛ فتأتي الخرافات والأساطير، ويأتي الوحي الذي يوحيه الشياطين, وأقوال الكهان, وما يتوارثه الناس عن الآباء والأجداد، وتمتزج جميعاً، فتعكر صفاء ونقاء مصدر المعرفة البشري، وبذلك اختلف الناس اختلافاً عظيماً جداً، (( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ))[هود:118].
  3. أخطر القضايا الفكرية التي تواجه الإنسان في البحث عن الحقيقة وسبب انتشارها

    وقضايا الخلاف الفكري -أيها الإخوة- قضايا كثيرة وكبيرة جداً، لا يمكن أن تدخل تحت الحصر؛ لكن أخطر هذه القضايا هي القضايا التي تتعلق بالدين وبالثوابت، والتي تتعلق بالقيم التي هي من الفطرة البشرية, والتي تعلم بصريح العقل, والتي لا يمكن للإنسان أن يعيش إلا وقد آمن بها، وإذا تعكرت أو تلوثت فإن الإنسان يضل ويتيه، كما هو واقع ومشاهد في الحضارة الغربية المعاصرة, كما عبر وزير الثقافة الفرنسي، فقال: هي أول حضارة في التاريخ بلا معنى, أي: لا تعرف معنى وجودها. ولعل هذا الموضوع إن شاء الله نفيض فيه في لقاءات أخرى. المقصود: أن هناك فعلاً مشكلة خطيرة جداً يعيشها الإنسان المعاصر، والحضارة المعاصرة، وهذه المشكلة الخطيرة هي نتيجة اختلاط مصادر المعرفة، ومن ذلك مثلاً: أن الكتب الدينية التي يعرفها الإنسان الغربي فقدت مرجعيتها ومصداقيتها في نظره، والعلم البشري لا يتوصل بذاته إلى الحقيقة! فهنا تاهت البشرية وضلت، فلذلك يجب على العلماء والمفكرين أن يحلوا هذه المشكلات للعالم البشري في جميع الفروع ما أمكن؛ بما آتانا الله سبحانه وتعالى به نحن أمة الإسلام من الوحي المحفوظ المعصوم الذي نحن نؤمن به إيماناً قطعياً يقيناً والحمد لله؛ لكن نريد أن ننقل هذا الإيمان والعلم وهذه المعرفة إلى الآخرين؛ وعندما ننقلها فإن الواجب أن ننقلها لهم بقدر الإمكان؛ بما يحلُّ مشكلاتهم، وبما يناسب عقولهم وتفكيرهم في الأسلوب؛ لأن كثيراً من القضايا لدينا يقينيات, ولكنها عندهم غير معلومة على الإطلاق! بمعنى آخر: لا بد أن نعرف واقعهم، وبناء عليه نقدم لهم هذا الدين، وهذه المصادر المعرفية الحقيقية.
  4. بداية المشكلات التي غيرت النظرة إلى الدين وتسببت في ضياع الحقيقة لدى البعض

    إن بداية المشكلات التي أقضت مضاجع رجال الدين, وغيَّرت النظرة إلى الدين ومصدره, وإلى الكتب الدينية كمرجعية هي: قضية النقد التاريخي للكتب المقدسة. وهذه القضية مع تطور الزمن تزداد وضوحاً، وتزداد إشكالاً، حتى إن القضية طالت زمناً، وأخذت أبعاداً كثيرة، إلى أن أصبح مجرد ذكر الدين فيها مما يثير السخرية، ويبعث على الاشمئزاز في كثير من الدوائر المعرفية والعلمية، ويبعث على القلق في داخل النفوس؛ لأنه ينافي الفطرة التي فطر الله تبارك وتعالى الخلق عليها. فهي مشكلة عويصة جداً، بمعنى: هل يؤمن المؤمن في الغرب -وفي غيره- بما في هذه الكتب من حقائق يرى الآن أنها ليست على الإطلاق مطابقة للواقع؟! هل يؤمن بهذا أو بهذا؟! فحصل هذا الاضطراب وهذا الإشكال الذي نرجو أن نحلّه على مدى حلقات أو لقاءات أو ما أمكن بإذن الله تبارك وتعالى، مستعينين باليقين والقطع, واليقين يأتي من الوحي الصادق المعصوم؛ الذي يؤيده العقل الصريح الصادق، والبحث والتجربة العلمية الصادقة.
  5. مثال تقريبي للتفريق بين الكتب المحرفة والقرآن المحفوظ في تبيين الحقائق

    أحب أن أوضح بمثال بين يدي هذا الموضوع:
    الأديان والصراع بين أهلها قديم، فلو افترضنا أن طرفين تشاجرا في قضية من القضايا, ثم مات جميع أطراف هذه القضية، ثم بعد فترة قوي من يؤيد أحد الطرفين على الآخر قوة كبيرة جداً إلى حد أنه استأجر المحامين والباحثين والنقابين، ونقبوا فوجدوا من الوثائق والمعلومات شيئاً هائلاً جداً عن القضية؛ حتى أن طرفي القضية الذين كانوا أحياء ما كانوا يعلمون عن وجودها، ثم بعد ذلك نجد الغرابة والطرافة في هذا الموضوع: أن مجموعة الباحثين والمحامين شهدوا للطرف الآخر الذي مقابل هذا؛ أي: لم يشهدوا للذي دفع الثمن واستأجر المحامين وتكلف كل هذه الأعباء والمشقات؛ بل كل الوثائق في نهاية الأمر تثبت صحة الطرف الآخر!
    هذا ببساطة هو موقف الكتب وموقف العلم, وبالذات إذا قارنَّا بين ما وقع في التوراة المحرفة، وبين كتاب الله تبارك وتعالى المحفوظ المعصوم، كما سوف نرى من حقائق جلية واضحة.
  6. دلالة الكشوفات الغربية على صدق الحقائق القرآنية وتكفل الله بإظهارها للمكذبين

    فنحن نجد أن الغرب هو الذي نقب, وهو الذي بحث، وهو الذي درس الحضارات, وهو الذي بحث في الكون وفي الآفاق، فكل هذا -وهو دلائل وبراهين قطعية- يثبت الآن أن هذا القرآن حق، وأنه من عند الله تبارك وتعالى.
    ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري و مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (ما من نبي من الأنبياء بعثه الله تبارك وتعالى قبلي إلا أوتي بما يؤمن الناس على مثله, وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة).
    ولما استعرض الحافظ ابن حجر رحمه الله الأقوال في هذا، ذكر أن أكثرها ملاءمة وترجيحاً لموضوعنا؛ هو: إخبار القرآن بالمغيبات، فلا يمر عصر من العصور إلا وظهر فيه شيء مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، مما يدل على صحته, وأنه حق من عند الله تبارك وتعالى.
    بمعنى آخر: أن لدينا نوعاً فذاً فريداً من الدلائل والبراهين القرآنية -التي يسميها علماء الكلام: معجزات- فيوجد نوع من الإعجاز، ونوع من الطرْح, ونوع من التوثيق والحقائق الساطعة النيرة؛ وهو أن الزمن كلما تقدم، وكلما كشفت العلوم شيئاً جديداً لم يكن يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه من حقائق واقعية مشاهدة ملموسة؛ فإنها بذلك تدل على أن الذي أنزل هذا القرآن هو الله تبارك وتعالى، وهو العليم بكل شيء, وهو القادر على كل شيء, وهو الذي يدبر الكون؛ فجعل تدبيره كما قدر، (( لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ))[الرعد:41], ولا راد لقضائه؛ فهذه حقائق يقينية تؤكد عظمة هذا الخالق سبحانه وتعالى, وصدْق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن على البشرية جميعاً أن تهتدي بهذا الهدى, وبهذا النور الذي أنزله الله عز وجل عليها.
    ونحن لا نستطيع أن نفصِّل في هذا الأمر كثيراً؛ لكن لو ضربنا بعض الأمثلة على ذلك: فمثلاً: عندما يُوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أول الوحي يعلم أنه (( نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ))[المدثر:36], وهذا في أوائل ما أنزل عليه.
    وعندما يعده الله تبارك وتعالى (( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ))[التوبة:33].
    وعندما يعده بأنه (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ))[النور:55], إلى آخر الآية.
    وعندما نجد أن الله سبحانه وتعالى يقول لقريش: (( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ))[ص:88].
    وعندما نجد أنه يقول: (( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ))[فصلت:53].
    ومثل ذلك: (( فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ))[الدخان:59], (( وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنتَظِرُونَ ))[السجدة:30], فأشياء كثيرة جداً تدل على أنه يا محمد! أنت مهمتك أن تؤدي الرسالة, ونحن سوف نتولى إيضاح وكشف هذه الحقائق، وهذا اليقين.
    والعجيب -كما قلنا- أن هذا اليقين يكشفه أولئك، ويبذلون الجهود من أجل كشفه، وصدق الله: (( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ))[فصلت:53] وهذا الخطاب لهم هم, فالحديث عنهم (( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ))[فصلت:53].