المادة    
ثم عندما بلغ إبراهيم عليه السلام هذا الأمر, وعندما أوحى الله تبارك وتعالى إليه, وعندما رفضه قومه, وعندما أرادوا إلقاءه في النار -كما سنشرح إن شاء الله- بعد ذلك تأتي الهجرة, هذا ظاهر قصص القرآن -ونأتي عليه بالتفصيل إن شاء الله- لكن نرجع إلى ماذا قال الكتاب بعد ذلك؟
يأتي الكتاب المحرف أو التوراة بأمر عجيب في هذا؛ وهو أنه بعد أن عرض عرضاً سريعاً أن إبراهيم عليه السلام ولوطاً خرجوا من أرض الكلدان -يعني: العراق- إلى أرض كنعان وبدون نبوة ولا ذكر لشيء من ذلك؛ التقى إبراهيم عليه السلام برجل أو بشخص يقول أهل الكتاب: إنه شخصية غامضة -هم في تعريفهم كما في دائرة المعارف الكتابية- وهو شخصية ملكي صادق ؛ فليكن غامضاً أو غير غامض ليست هذا المشكلة, المشكلة أنهم يقولون: إن إبراهيم عليه السلام نزل عنده فاستقبله ملكي صادق وأخرج خبزاً وخمراً، وكان كاهناً لله العلي وباركه, وقال: مبارك إبراهيم؛ فأعطاه إبراهيم عليه السلام عُشْراً من كل شيء.
إذاً خلاصة ما قالوا: أن هذه الشخصية كان كاهناً لله العلي، وأن إبراهيم تبارك بنزوله عنده واستضافته له، وقدم إبراهيم -كما يقولون- العُشر من ماله إلى ملكي صادق، ويقولون: إن ملكي صادق يعني: ملك الصدق, وملك البر, وملك السلام.. وهذه الشخصية في الحقيقة تحتاج إلى شيء من أن يجلى الغموض عنها باختصار.
  1. بيان حول حقيقة شخصية ملكي صادق

    البعض يقولون: إن ملكي صادق هو حمورابي مثلاً، هذا -مع الأسف- الكلام نقله الشيخ رشيد رضا رحمة الله عليه, فهو في الجزء السابع من تفسير المنار صفحة خمسمائة وخمسة وثلاثين يقول: إن حمورابي هو ملكي صادق ملك البر والسلام الذي يقال في العهد العتيق: إنه كاهن الله وأنه بارك إبراهيم وأن إبراهيم أعطاه العشر... إلى آخره.
    الحقيقة أن هناك مشكلة إضافية في كلام الشيخ رشيد رضا أن نقول: إن حمورابي هو ملكي صادق فلدينا عدة شخصيات: حمورابي و أمرافل -بعض الناس يقول: أمرافل تحريفاً لحمورابل- وعندنا ملكي صادق ، الذي يبدو أنها ثلاث شخصيات مختلفة اختلافاً شديداً.
    لا يهمنا هل يكون أمرافل هو حمورابي أو غيره، ولا يهمنا مَن حمورابي إلا أن نوضح أنه ليس هو ملكي صادق , بمعنى: أن حمورابي ضمن الشريعة المكتوبة أحد أمرين: إما أن يكون ملكاً من الملوك الذين نقلوا شريعة من شرائع الأنبياء السابقين في شريعته، وإما أن يكون حمورابي هو نبي من الأنبياء -فلله تعالى أنبياء من قبل- وأوحى إليه الله بشريعة؛ لكن لا علاقة لها بإبراهيم عليه السلام وكتبها سواء كان بعده أو قبله لا يهم، وإما أن يكون ملكاً وثنياً وتكون الكتابة المنسوبة إلى شريعته أنها بوحي من الشمس, وهو ملك وثني؛ لكن شريعته فيها شيء من الحق المنقول.
    كل الاحتمالات ورادة: أن يكون التحريف في الكتابة أو أن تكون الكتابة صحيحة وكان على غير دين التوحيد, وأما شريعته فلا عجب أن تتطابق وتتوافق شرائع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، الذي يهمنا أن نقوله: أنه ليس هو ملكي صادق أو ملك الصدق الذي يقول هؤلاء القوم.
    ملكي صادق هو في الحقيقة أحد أمرين: إما أن يكون شخصية مختلقة، واختلقها اليهود ثم فرح بها النصارى لإضفاء نوع من الرمزية على المسيح عليه السلام -كما سيأتي إن شاء الله تبارك وتعالى وننقله من كلامهم- أو أن يكون ملكي صادق شخصية حقيقة؛ ولكن ليست بالشكل الذي ورد في العهد القديم، ولا بالحال الذي قيل: إنه كان أعظم -كما يبدو- من إبراهيم عليه السلام، وأن رتبته عند الله تبارك وتعالى كانت عالية جداً إلى حد أن يقال لأنبياء الله: سنجعلك على رتبة ملكي صادق .
    لا يهمنا هذا الرجل حقيقة في ذاته بقدر ما يهمنا أن نقول: إن القصة إما أنها مختلقة وإما أنها محرفة، فلا صحة على الإطلاق أن يكون الخليل نبي الله -وهو في سن السبعين أو أكبر منها- يذهب إلى مثل هذا الرجل, ويعتبره كاهناً لله العلي ويعطيه العشر! مع ملاحظة أن من يقولون: إنه كاهن لله العلي هذه أفضل الترجمات؛ لأن البعض يقول: إن ملكي صادق كان كاهناً للإله أو للرب عليون الذي كان يعبده الكنعانيون, وهذا أفحش وأشد؛ فإذا كان كاهناً لوثن من الأوثان أو لمعبود غير الله تبارك وتعالى فالأمر أشد بعداً، ولا يمكن أن يتصور المؤمن أن إبراهيم عليه السلام يذهب إليه ويعطيه العشر ويتقرب منه, ويأخذ البركة منه! وكما نصوا وسنقرأه إن شاء الله من كلامهم؛ أن ملكي صادق أعلى وأفضل من إبراهيم، وهذا في الحقيقة فيه تحقير وتدنيس لمقام النبوة؛ ولا سيما إذا كان هذا كاهناً لوثن من الأوثان, أو كان ملكاً وثنياً كما يزعمون.
  2. توضيح المراد من ذكر الوحي المحرف لقاء إبراهيم بملكي صادق

    لا نستطيع في هذا اللقاء وقد اقترب الوقت على الانتهاء أن نكمل قصة ملكي صادق ؛ لكن نشير إلى أمر مهم، وهو أنه كما قلنا: عندما يحرص اليهود المحرفون أن يتعمدوا مسألة الأرض والوعد فجاءت هنا -وربما تكون هي سبب وضع الأمر كله- أن ملكي صادق عندهم هو ملك الصدق وملك السلام؛ فبما أن الصدق والسلام متقاربان فإذاً: يكون ملك سالم أو سلام، فإذاً قالوا: هو ملك أورسالم أو أورشليم؛ فإذاً يكون هو ملك القدس.
    فكأن ذلك أيضاً يقربهم إلى مسألة دعوى أن إبراهيم عليه السلام أُعطي الوعد له ولذريته, وأن العهد قديم, وهذا نرد عليه ببساطة نقول: إن في ذلك الوقت لم تكن قد بُنيت القدس , وهذا تقريباً كل المؤرخين يجمعون عليه؛ أن الأمة التي كانت تسكن في تلك المنطقة كانوا يسمون: اليبوسيين, وأن المسجد الأقصى أول ما بني وأصبح القدس قدساً كان بعد ذلك بحين, فيقول بعضهم: إنه في أيام سليمان, ونحن نقول: لا, بل إن أول من بناه إسحاق, وقد يكون في حياة أبيه إبراهيم عليه السلام بعد بناء الكعبة بأربعين سنة, وهذا منصوص عليه في صحيح البخاري .
    المقصود: أنه لا يمكن أن نطابق بين ملكي صادق وقضية أورشالم وأورشليم إلا على الهوى والمزاج الكتابي اليهودي، الذي يحاول أن يحرف أو يختلق ما يؤكد الوعد بأن هذه القدس قديمة, وأنها موعودة منذ القدم, وأنها هي بشكل عنصري لإبراهيم, وفرع واحد من ذريته فقط؛ وهو فرع إسحاق عليه السلام، بينما نجد أن ابن كثير رحمة الله تبارك وتعالى عليه يقول: إنه لما أصعده الله وأراه الأرض أراه شرقها وغربها وجنوبها وشمالها، فيدخل في ذلك ما ترثه أمة محمد صلى الله عليه وسلم, وهو أوسع وأكبر وأشمل من أرض فلسطين التي لا تكاد تشكل نسبة إلا ما يعادل 1% من جزيرة العرب وحدها، فضلاً عن غير ذلك من الممالك ومن الأرض الواسعة المحيطة بها التي وعدها من يتبع ملة إبراهيم عليه السلام، ومعلوم أن الذي اتبع ملة إبراهيم عليه السلام وأورثه الله تبارك وتعالى الأرض وملكها فعلاً هو: محمد صلى الله عليه وسلم، والفاتحون من الصالحين من بعده؛ كما بين الله تبارك وتعالى: (( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ))[الأنبياء:105].
    نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلنا وإياكم منهم؛ إنه على كل شيء قدير.
    نستكمل بإذن الله تبارك وتعالى في الحلقة القادمة ما يتعلق بـ ملكي صادق , وقصته عند أهل الكتاب, وعلاقته بنبي الله الخليل إبراهيم عليه السلام.
    والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.