المادة    
إذا نظرنا نظرة في القرآن الكريم نجد أن الأمر بخلاف ذلك كله، الأمر في القرآن الكريم لا يبدأ بالولادة أو بالذرية أو بالعقم, هذا يأتي الحديث عنه متأخراً، فالله سبحانه وتعالى ذكر في هذا الكتاب الذي كل آية فيه تدل على أنه حق من عند الله تبارك وتعالى, وأنه في أعلى درجات البيان, وأعلى مقامات البلاغة؛ يذكر في كل سورة ما يناسبها وما يناسب الإطار العام للسورة, والسياق العام لها ولما قبلها ولما بعدها، وللحدث الذي يريد أن يأتي إليه, وكل الكتاب في عبادة الله وتوحيده, وفي الأمر الأعظم والأهم، فلا يأتي أي ذكر للأحداث التي لا تهم ولا تفيد, ولا تخدم هذه الغايات العظيمة.
نجد أن الله سبحانه وتعالى ذكر ما يدل على أن إبراهيم عليه السلام في شبابه كان على الفطرة القويمة السليمة، والدليل: أنه كان شاباً عندما جادل قومه, وعندما حطم الأصنام في كتاب الله تبارك وتعالى: (( قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ))[الأنبياء:60]. والفتى في لغة العرب هو: الذي في سن المراهقة أو سن البلوغ وما بعده أو قريب منه، واللغة العربية دقيقة جداً, والعلماء أطالوا في ذكر حالات الإنسان من الولادة إلى الموت, ولهم فيها تفصيل لا يهمنا كثيراً الآن، الذي يهم هو أن الفتى هو من كان في أول الشباب, وفي نظارة الشباب، ومن الممكن أن نقول: إنه ما بين المراهقة إلى العشرين أو أقل من ذلك، وجاء ذلك في كتاب الله تبارك وتعالى في ذكر أصحاب الكهف: (( إِنَّهُم فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ ))[الكهف:13].
المقصود أنه يمكن باللغة المعاصرة الآن -بالذات في اللغة الإنجليزية- ما يسمونهم (teen)؛ الذين آخرهم تين من ثلاثة عشر إلى تسعة عشر هذه مرحلة فتوة، الفتى الذي يمكن أن يكون في هذه السن كيف يمكن أن يجادل قومه في هذه الأمور العظيمة وينكر ذلك؟! نقول: من القرآن يتضح أن هذا الفتى إبراهيم عليه السلام فطره الله تبارك وتعالى وألهمه الرشد كما قال تعالى: (( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ))[الأنبياء:51], و(الرشد) فيما يظهر -والله تبارك وتعالى أعلم- أن هذا قبل النبوة, يعني: إبراهيم عليه السلام كان ملهم الرشد والحكمة والمنطق والمجادلة لقومه بالحجة القوية قبل النبوة.