فنجد بإيجاز أن الله تبارك وتعالى اختار موسى عليه السلام واصطفاه واجتباه وأوحى إليه وواعده للميقات، وكان الميقات ثلاثين ليلة؛ ولكن الله تعالى يقول: ((
وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ))[الأعراف:142]؛ فتم الميقات من عند الله تبارك وتعالى أربعين ليلة, واختار معه صفوة من قومه، وعند غيابه دخل الشيطان إلى تلك القلوب المريضة التي لا تزال حديثة عهد بالوثنية وبالشرك، والتي تعبد الذهب, وأشربت في قلوبها حب الذهب، وهم فئة من بني إسرائيل, ولا نقول: كلهم لا في القديم ولا في الحديث, وإنما فئة منهم هذه نفسيتها -لكن طبعاً الجيل الأخير غلب ذلك على أكثره- المقصود: أن هذه الفئة هي التي بين الله سبحانه وتعالى أنه ليس هارون عليه السلام من أضلهم! وإنما هو رجل ثالث ضال؛ وهو
السامري، مع التنبيه أن
اليهود منذ العصر القديم إلى الآن يقولون: لا ينجس أحد منهم فمه بأن ينطق كلمة
سامري -كما يزعمون- فيعادونهم أشد العداء! فما المانع ما دام أنكم تحتقرون أتباع
السامري إلى هذا الحد أن يكون فعلاً -كما جاء في القرآن- هو الذي أضل, وهو الذي زاغ وأزاغ قومه عن الحق؟! المهم هذا
السامري عندما قبض قبضة من أثر الرسول الملكي وهو جبريل عليه السلام ورماها على الذهب؛ فالله سبحانه وتعالى بحكمته عز وجل صار كأن له خوار.حتى إن
ابن عباس رضي الله عنه قال: [
والله ما تكلم العجل قط], وكما ذكر الله تعالى: ((
لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ))[الأعراف:148]، [
ما تكلم قط؛ ولكن كان الهواء يدخل من فمه ويخرج من دبره]، والمقصود من ذلك: فتنة!فهارون عليه السلام يقف بكل قوة في هذا الموقف العصيب الرهيب، أمة نبي من الأنبياء الكرام, أمة ينقذها الله من فرعون وقومه, أمة كانت على الشرك وعلى العبودية ويخرجها الله إلى نور الإيمان وإلى نور التوحيد، وتنتظر أن يأتي موسى عليه السلام بالألواح وبالخير وبالهدى وبالنور من ربه، ومع ذلك تنتكس إلى أرذل وأحط أنواع الشرك التي لا يفعلها إلا الشعوب الملعونة المنبوذة، مثلما لعنوا هم من قبل
كنعان والموآبيين والعمونيين.. إلى آخره, إذا عبد هؤلاء الأصنام مثلما عبدها أولئك أي قيمة لهذه الأمة بعد ذلك؟ كيف يكون شعب الله المختار وهو يعبد ما يعبده أولئك, وأشد من ذلك أن الذين يصنعون الأصنام هم الأنبياء كما يزعمون!المقصود أن هارون عليه السلام يقول: ((
يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ ))[طه:90] هذه فتنة, ((
وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ ))[طه:90] تبارك وتعالى, ويبذل جهداً عظيماً معهم -كما بين الله تبارك وتعالى- لأن يهتدوا، ولكنهم أصروا أن يظلوا عليه عاكفين, وأن يظلوا يعبدوه حتى يرجع إليهم موسى، فلما رجع موسى عليه السلام أخبره الله تبارك وتعالى بذلك؛ فيفاجأ بهذا الحدث الرهيب, فيلقي الألواح التي فيها ما كتب الله تبارك وتعالى لهم من الموعظة والحكمة والشريعة من الغضب, وأخذ برأس أخيه يجره إليه، كان هذا الموقف العجيب من أعجب قصص القرآن؛ الأخ -وعلى قولهم أنه- الأصغر يجر برأس أخيه الأكبر وبلحيته, ويقول: كيف يحصل هذا؟! إنكار شديد لأن يقع الشرك, وإنكار شديد لأن يقره، ويصر هارون عليه السلام أنه لم يقر ذلك، وأنهم غلبوه, وأنهم ضيقوا عليه الخناق ولا يدري, احتار! يخشى أن يأخذ من آمن معه من بني إسرائيل ويلحق بموسى عليه السلام إلى الجبل؛ فيكون قد فرق بينهم، وحاول وظل ينصح حتى جاء موسى عليه السلام. هذا بإيجاز.إذاً: الفرق كبير جداً ما بين هذه النظرة القرآنية السامية العالية، هذه النظرة الإسلامية للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وبين ما يصف
اليهود به أنبياءهم.