نرجع إلى عبارة المصنف رحمه الله يقول:
[ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب، كما تفعله الخوارج، وفرق بين النفي العام ونفي العموم، والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب.
ولهذا -والله أعلم- قيده الشيخ رحمه الله بقوله: (ما لم يستحله) وفي قوله: (ما لم يستحله) إشارة إلى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب من الذنوب العملية لا العلمية، وفيه إشكال، فإن الشارع لم يكتفِ من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تبع.. إلا أن يُضمّن قوله: (يستحله) بمعنى: يعتقده أو نحو ذلك.
وقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله.. إلى آخر كلامه) رد على المرجئة، فإنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فهؤلاء في طرف، والخوارج في طرف، فإنهم يقولون: نكفر المسلم بكل ذنب، أو بكل ذنب كبير، وكذلك المعتزلة الذين يقولون: يحبط إيمانه كله بالكبيرة، فلا يبقى معه شيء من الإيمان.
لكن الخوارج يقولون: يخرج من الإيمان، ويدخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر، وهذه المنزلة بين المنزلتين!! وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار! ]
.
قوله: (ولهذا) الإشارة إلى وجود مرتدين ممن ينتسبون إلى الإسلام؛ أي لكونه في أهل القبلة من هو منافق ومرتد [امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب؛ بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب] فهذا مما يستدرك على الإمام الطحاوي وهو يقول: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله] فالمستدرك عليه هو هذه العبارة، لكن الاستدراك أيضاً محل نظر، وسنأخذ الآن وجهة نظر من يستدرك ومن لا يستدرك.
هناك فرق بين: (لا نكفر أحداً بذنب) و(لا نكفر أحداً بكل ذنب)؛ (لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) معناه لا أحد يكفر بذنب؛ هكذا فهم بعض العلماء، وكيف لا نكفر أحداً بذنب، وهناك ذنوب تكفر؟! لكن إذا قلنا: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بكل ذنب؛ فمعناه أنه يوجد ذنوب مكفرة، ويوجد ذنوب غير مكفرة.
[وفرق بين النفي العام ونفي العموم]، العبارة التي تكون على النفي العام هي: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) فهذا نفي عام، ونفي العموم هو: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بكل ذنب) فهنا نفينا العموم.
يقول المصنف رحمه الله: "والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب" فقوله رحمه الله: (مناقضة) مفعول لأجله أي: نقول ذلك مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل بذنب.
فعندنا ثلاث عبارات: (من لا يكفر بذنب) (من يكفر بكل ذنب) و(من لا يكفر بكل بذنب)؛ فـالمرجئة لا يكفرون بذنب، والخوارج يكفرون بكل ذنب.
أما أهل السنة فإنهم لا يكفرون بكل ذنب.
قال: "ولهذا -والله أعلم- قيده الشيخ رحمه الله" أي: مراعاة لكونه ليس كل ذنب لا يكفر فاعله، بل مِن الذنوب مَن يكفر مقترفها ومنها من لا يكفر مقترفها "قيده الشيخ رحمه الله بقوله: (ما لم يستحله)" كأن الإمام أبا جعفر الطحاوي رحمه الله تنبه لهذا، فقال: أنا لا أقصد أنني لا أكفر أحداً بذنب -كما تقول المرجئة - فإني أقول: (ما لم يستحله).
إذاً: عند الطحاوي من أهل الذنوب من يكفرون بالاستحلال.
يقول المصنف: "وفي قوله: (ما لم يستحله) إشارة إلى أن مراده من هذا: النفي العام لكل ذنب من الذنوب العملية لا العلمية" إذاً: فالاستدراك على الإمام الطحاوي خطأ؛ لأن الإمام الطحاوي تنبه لخطر العموم في النفي فقال: (ما لم يستحله) والاستحلال يكون في الأمور العملية من الزنا وشرب الخمر والسرقة.
وكأن الإمام الطحاوي رحمه الله يكتب هذه العبارة وأمام عينيه الرد على الخوارج، فهو يقصد بما يكتبه الرد عليهم، ويقول: "لا نكفر أحداً بذنب ما لم يستحله"، أي: أنا أتكلم في الكبائر العملية من زنا وسرقة وشرب خمر، ولا أقول: إن فاعل هذه الأمور خارج عن الإسلام، لكنه من أهل الوعيد، ولا أخرجه من الملة إلا إذا استحل الذنب، فإذا استحل الكبيرة فهو مرتد.
ثم استدرك المصنف على نفسه فقال: "وفيه إشكال؛ فإن الشارع لم يكتف من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تبع" ذكرنا تعريف الإيمان وأنه (قول وعمل) فيقول هنا: إن العلاقة بين العمل والعلم لا تنفك؛ بل هي متلازمة؛ فحين يصلي المصلي فصلاته من الأمور العملية، لكن المصنف رحمه الله: هذه ليست عملية فقط؛ لأنه لم يصلِّ إلا بنية الصلاة وبالإخلاص وبالإيمان بها وبالخشوع؛ وهذه أعمال قلبية.
وحين حرم الله تعالى علينا الزنا أو الخمر أو السرقة، حرمها لكي نعتقد تحريمها، وليس لمجرد ألا نفعلها، فهي -أي العلاقة بين العلم والعمل- مرتبطة لا تنفك، فأعمال القلوب وأعمال الجوارح مرتبطة، والأصل هو أعمال القلوب، والشارع لم يكتفِ منا في العمليات بمجرد العمل؛ بل لابد أيضاً من العلم -أي الاعتقاد- فهناك ترابط قائم ولا شك في وجوده.
وقد ضربنا مثالاً لذلك، كما ذكره الله تعالى بقوله: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً))[إبراهيم:24] الآية، فالتلازم بين الظاهر والباطن قائم وحق.
يقول المصنف: "إلا أن يُضَمَّنَ قوله: (يستحله) بمعنى يعتقده، أو نحو ذلك" فتكون العبارة صحيحة؛ لأن الاعتقاد يتضمن فعل القلب.
فالمصنف يقول: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله]، أي: ما لم يعتقده حلالاً، فإن كان عملياً فالمقصود لم يعتقد حله، وإن كان علمياً فالمقصود أنه لم يعتقد صحته وصدقه.