فإذاً كلام الشيخ رحمه الله فيما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والافتراق، بسبب ذلك نحمله على المحمل الصحيح، ونوجهه الوجهة الصحيحة، ولا يؤخذ بإطلاقه، فلو يؤخذ على إطلاقه من أن الخلاف لفظي، وأنه لا بد أن تكف كل طائفة عما لديها من الحق، أو ما لديها من قول، حتى لا يقع هذا المحذور، والعدوان والظلم والبغي ليس من صفات المؤمنين، بل حتى مع الكافرين، والعدوان بمعنى الظلم لا بمعنى الاقتتال، والذي هو البغي والظلم والخروج عن العدل وعن الصراط المستقيم وما شرعه الله تبارك وتعالى، فهذا لا يكون، ولو وقع حتى مع الكافرين وجب على المؤمنين أن يرجعوا عنه، وإن لم يعدل المسلمون فمن يعدل كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن أهل الفرق إذا اختلفوا فيما بينهم يرجعون إلى أهل السنة والجماعة ليحكموا بينهم بالعدل، إذ لا يعدل إلا هم، فأهل الإسلام هم أهل العدل بين الملل، وأهل السنة هم أهل العدل بين الفرق، فإن ترك أهل السنة العدل وبغوا وتجاوزوا وحملوا الكلام ما لم يحتمل، وغلوا في رأيهم، وخرجوا عما لا يجوز أو تجاوزوا، فهي المأساة الكبرى؛ لأن المعيار ضاع، والله سبحانه وتعالى عندما قال: (( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ))[الرحمن:7-9] فهذا التكرار في هذه الآيات العظيمة ليدل أن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض وجعل قوامها بالحق وبالعدل، وقد وضع الميزان والمعيار الصحيح في كل الأمور فقال: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) فيجب أن يكون الوزن بالقسط، وهذا أمر الله تبارك وتعالى، لكن هل هذا فقط فيما يوزن أو يكال كما في قوله تعالى: (( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ))[المطففين:1]؟ لا، ولهذا قال في الآية الأخرى: (( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ))[الأنعام:152] فالوزن يكون في القول، ويكون في العمل، وفي وزن الأمم، وفي وزن الفرق، وفي وزن الرجال، فلو جاء أحد وقال: إن اليهود يقولون: إن الله ثالث ثلاثة! فهل نقول: إن كلامك صحيح؟ لا؛ لأننا لا نقر بهذا، وليس عدلاً وليس حقاً -وإن كان اليهود كفاراً لا شك في كفرهم، وإن لم يكفروا بهذا يكفروا بغيره- أن ننسب إليهم ما لم يقولوا، ولا نتأول عليهم أبداً، وإذا قالوا قولاً يحتمل أن يكون حقاً أو يراد به الباطل، قلنا: قولكم هذا يحتمل كذا ويحتمل كذا.