وليس من صفات المؤمنين أبداً أن يقعوا في هذا، أما النزاع والاختلاف فهو أمر طبيعي جبلي، ومحال أن يتفق الناس على أمر واحد وإن كانوا جميعاً يريدون غرضاً أو هدفاً واحداً، حتى أهل الحق الذين يريدون الحق الموافق للكتاب والسنة، ويريدون رضوان الله والجنة، فلا نتوقع أو نفترض أنهم لا بد أن يتفقوا جميعاً على أمر واحد لا سيما في الفتن، إذ إن الفتن شأنها عظيم، فهي كظلمات تموج موج البحر كما في الصحيحين من حديث
حذيفة ، فكم من العقول يمكن أن تثبت أمام فتن مظلمة مدلهمة تموج كموج البحر؟! لا بد أن يقع الخلاف وتتشعب الآراء، والصحابة رضوان الله تعالى عليهم لما وقعت الفتنة تقاتلوا، مع أنهم كانوا جماعة واحدة وأمة واحدة، لكن لما قتل
عثمان رضي الله عنه وقعت الفتنة وحصل الاضطراب، فهؤلاء خرجوا إلى
الكوفة ، وأولئك ذهبوا إلى
مكة ، وآخرون أتوا من هناك، وصار كل واحد له رأي وحل وسبيل ومخرج من هذه الفتنة أو هذا البلاء، فحصل ما حصل، وغشيهم ما غشيهم من المشكلات، فأدى ذلك أن أدخل أهل الإفساد والإيقاع بينهم حتى حصل القتال بينهم في يوم الجمل ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم وقع أشد منه في يوم
صفين ، هذا وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي إن شاء الله عندما نتحدث عن الجماعة -وهو أصل عظيم- كيف قال
سعيد بن المسيب رحمه الله عن الفتنة الأولى والثانية والثالثة، إذ إن كل فتنة كانت أشد مما قبلها، فوقعت الفتنة الأولى فلم تبق من أهل
بدر أحداً، ثم وقعت الثانية فلم تبق من أهل
الحديبية أحداً، ثم وقعت الثالثة ولم تنته وللناس طباخ، أي: عقل، وكلما تأتي فتنة تقضي على طائفة عظيمة من الأمة وتشتتها. وكل ما ذكرنا ليس لأن الأطراف في الفتنة من الصحابة، حاشاهم من أن يكونوا سيئي النية، بل كانوا مجتهدين، والخلاف طبيعي أن يقع، وليس أيضاً من كان دونهم كان سيء النية، ولكن يقع سوء النية ويدخل المفسدون والمرجفون عندما يقع الشقاق والفرقة، فتدخل فيه الحشرات السامة، لكن قبل ذلك لا يجدون مدخلاً يدخلون به، لكن لأن سنته سبحانه وتعالى أن الخلاف يقع، وأنه قد يقع ممن هو حسن النية، فإذا تمادت الأمة فيه، ولم تثبت وتصبر على الفتنة كما فعل بعض الصحابة رضي الله تعالى عليهم، إذ وجد أن المخرج هو أن يعتزل الناس كليةً، فاعتزل الفتنة الأولى
سعد بن أبي وقاص و
أبو هريرة و
أبو بكرة و
عبد الله بن عمر و
عبد الله بن مغفل وغيرهم، و
سلمة بن الأكوع رضي الله عنه خرج من
المدينة ولم يعد إليها إلا قبل وفاته، كرامة من الله تعالى له أن يموت في أرض الهجرة، مع أن بعضهم ما استطاع إلا أن يخرج؛ لأنها فتنة، فنقول: إن ما يقع الآن في كل زمان وفي كل مكان أعظم مما كان في عهد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم؛ لأنه كلما يأتي زمان تشتد الفتن والخطوب أكثر فأكثر، لكن ذلك بفضل الله تعالى لا يعني أن لا يقوم من هو قائم لله بحجة، وأن لا تكون في الأرض طائفة منصورة تجتمع على الحق، وإنما المشكلة -كما ذكرنا- وأصل الموضوع أن يوجد الخلاف، وأن تبذر الفرقة بين الطائفة المنصورة، بين
أهل السنة والجماعة، فهذه هي المصيبة الكبرى، وهذا هو الخطب الذي دونه كل الخطوب، مع أن الأمر دائر بين أمرين: إما أن يكون فيها نص، أو لا يكون، فإن كان فيها نص، فإما أن يكون قطعياً، وإما أن يكون ظنياً في دلالته، فإن كان النص قطعي الدلالة، فيجب على الجميع الالتزام به، ولا يكون من
أهل السنة والجماعة من لا يلتزم به في هذه الحالة، وإن كان ظني الدلالة فلا يجوز لأحد أن يحمل الناس على اجتهاده، بل يجوز لكل أن يفهم فهمه واجتهاده الخاص به، وأما إن كان الأمر مما لا نص فيه مطلقاً فكما قال الله تبارك وتعالى: ((
وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ))[الشورى:38]، فعلى
أهل السنة أن يجتمعوا وأن يتشاوروا، وما خرجوا به من رأي فهو الحق إن شاء الله، وكما جاء في حديث ضعيف سنده، لكن معناه صحيح والواقع يؤكده بما له من شواهد: (
عليكم بالجماعة؛ فإنما تكرهونه في الجماعة خير مما تحمدونه في الفرقة )، أي: ماذا نتوقع في الفرقة؟ إن بعض الناس يتصور أن في الفرقة خيراً ما، كأن يتصور أن فيها بياناً للحق مثلاً أو إيضاحاً أو كفاً لباطل أو لبدعة أو لكذا، فهذا الذي يكرهه في الحق في الجماعة خير مما يحمده في الفرقة؛ لأن وقوع الفرقة ومرارتها وألمها وما يلزم عنها، يضيع وينسي تلك الثمرة التي رجوتها وسعيت إليها بالفرقة بين أهل الحق وبين أهل الإيمان و
أهل السنة ، فعندما تقع الفرقة وتقارن بين ثمرة الافتراق، وبين هذا المصاب وهذا الخطب وهذا الخلل، يجد كل عاقل أنه لا يساوي تلك الفرقة، ويتمنى أن الفرقة لم تكن، وهذا أحرص ما يحرص عليه الشيطان وهو التحريش بين المؤمنين والإيقاع بنيهم كما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.