وضوح تضمن الإيمان للعمل عند المسلمين
فهذا الأمر -بالنسبة لعامة المسلمين، ولمن كان في جزيرة العرب على وجه الخصوص- أمر واضح كالشمس، فلا يحتاج إلى بيان، وإن كان في أول الأمر خفي بعض ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه في آخر الأمر أظهر الله تبارك وتعالى الدين كله وفصله تفصيلاً، فما بقي أحد يجهله، ولا سيما من كان في هذه الجزيرة ممن لديه عقل وفهم في لغة العرب، خاصة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم الذين هم علماء الأمة يفتون ويبينون للناس الحق والحلال والحرام. ولم يختلفوا أبداً في الإيمان، ولم يكن ليدور في أذهانهم أو في واقعهم البحث عن حقيقة الإيمان، أو أن يتنازعوا فيه؛ لأن ذلك مثل الشمس في رابعة النهار، ولن يأتي أحد على الإطلاق بقول أو رأي منسوب إلى أحد الصحابة الكرام أنه ظن أو توهم أو اعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جاء ليعرف الناس بأن هناك رباً موجوداً في السماء تبارك وتعالى، وأن الإيمان هو أن يُعرف الله ويصدق الناس بقلوبهم أن هذا الدين حق ولو لم يعملوا بشيء من الأعمال. بل إن المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يستطيعوا أن يتجرءوا فيقولوا هذا القول، ولذلك نجد في القرآن في آيات براءة وغيرها أن المنافقين أنفسهم كانوا يعملون أعمال الإيمان، فالأمة كلها كانت عاملة، وكلها كانت تعلم أن الدين قولٌ وعمل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جاء بهذا الدين ليعبد الله وحده لا شريك له حقيقةً وعملاً، وأنه صلى الله عليه وسلم وفى بما أمره به ربه تعالى حين قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ... ) فكل من دان لله تعالى ودخل في دين الإسلام فلابد له من أن يأتي بهذه الأعمال، وهي الإقرار بالشهادتين ظاهراً والانقياد بأداء هذين الركنين: الصلاة والزكاة، أما الصوم والحج فالحكمة في أنهما لم يذكرا في هذا الحديث، ولم يذكرا في قوله تعالى: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ))[التوبة:11]، ولم يذكرا في قوله تعالى: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ))[التوبة:5]: أن الصوم عبادة خفية، فلا يمكن أن تقول: سنقاتل فلاناً حتى يصوم، وإذا التزم الصلاة والزكاة وعرف أن الصيام ركن فإنه يصوم غالباً، وإذا عُرف أن أحداً انتهك الصوم يعاقب، لكن الإلزام به كالإلزام بالصلاة والزكاة متعذر؛ لأن الإنسان يمكنه أن يمسك عن الطعام والشراب ظاهراً ولا يكون صائماً. وأما الحج فلأنه يجب مرة واحدة في العمر، فكلما قيل له: حج قال: أحج من قابل، أو لأن فرضيته -كما يقول بعض العلماء- تأخرت. فالمقصود هو أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما هو معلوم من دينه ودعوته- جاء للناس بدينٍ هو اعتقاد وعمل، حتى المنافقون كانوا يعلمون ذلك، ولهذا كانوا يعملون، فكانوا يحجون، وكانوا يغزون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يؤدون الزكاة، وكانوا ينفقون، مع أن نفقاتهم غير مقبولة وجهادهم غير مقبول؛ بسبب النفاق الأكبر، فكل أعمالهم حابطة، لكن لم يكن أحد يتسمى باسم الإسلام أو ينتمي إلى أمة الإسلام ولا يأتي بالأعمال التي هي أركان الإسلام أو واجباته الظاهرة.