أمثلة على خروج المعنى الاصطلاحي عن المعنى الأصلي
فمثلاً: جملة: (حدود الله) كثيراً ما تأتي في القرآن، كما في قوله تعالى: (( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا ))[البقرة:187]، وقوله: (( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا ))[البقرة:229]، ومعناها هنا: جملة الأوامر والنواهي مما يتعلق منها بالبيوع، وما يتعلق بالنكاح، وما يتعلق بالطلاق، وما يتعلق بالحقوق كلها، فكل هذه هي حدود الله، وأما الفقهاء فيذكرون الحدود ويعنون بها العقوبات المقدرة، وقلنا: العقوبات المقدرة؛ لأنها يقابلها التعازير، وهي عقوبات غير مقدرة، والعقوبات المقدرة مثل: القصاص في حد السرقة، وحد الزنا، والقذف، وشرب الخمر، فهذه يسميها الفقهاء: الحدود، فعندما نجد قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يزاد على عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله ) فمعناه على قولهم: أنه ليس لك أن تعزر إلا في حدود العشرة أسواط، وهذا قال به طائفة من العلماء، فتقول مثلاً: يجلد الزاني غير المحصن مائة جلدة، ويجلد الشارب والقاذف ثمانين أو أربعين، وأما ما عدا ذلك كأن يختلي رجل بامرأة، أو أن يبني رجل مصنعاً للخمر؛ فهذا يجلد فيها عشرة أسواط فما دون، وهذا قول بعض العلماء. وهو في الحقيقة ليس هو القول الراجح أو الصحيح في المسألة؛ لأن كلمة (الحد) هنا ليس المقصود بها ما قرره الفقهاء بمعنى: العقوبات المقدرة، وإنما المقصود: أن الله سبحانه وتعالى جعل العقوبات على نوعين، فالنوع الأول: ما كان في حد من حدود الله، أي: في أوامر الله ونواهيه، كما في قوله تعالى: (( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ))[المجادلة:4]، أي: ما كان من أوامر الله ونواهيه.والأمر الثاني: ما كان من باب الولاية التي جعلها الله تعالى للعبد في حق من حقوقه، كالرجل مع أبنائه مثلاً، أو مع أهله، أو المعلم مع صبيانه وما أشبه ذلك، فهناك قدر للولاية، فإذا كان التأديب أو التعزير في حدود الله فلك أن تجعلها ما شئت، وهذا هو القول الصحيح، فلو قال أحد: إنه يعزر بألف جلدة؛ فإنه يجوز إذا كان يستحق ذلك، فإذا وجد عنده مصنع للخمر مثلاً وقال القاضي: يعزر بألف جلدة، وتوزع عليه على عشرين يوماً، أو على مائة أو غير ذلك، فهذا صحيح، ولا حرج في ذلك.لكن لو أراد رجل أن يضرب ابنه، أو أراد معلم أن يؤدب تلميذه الذي لم يرتكب حداً من حدود الله؛ لكنه لم يحفظ ما قرره عليه، فأراد أن يؤدبه فليؤدبه بأربع جلدات أو خمس أو غيرها، ولا يزيد على العشر، وهكذا فيما يتعلق بالولايات، كموظف أراد رئيسه، أو ولد أراد وليه أن يعاقبه أو يعزره لتغيبه مثلاً أو ما أشبه ذلك، فهذا داخل في الولايات والتأديب.والشاهد من هذا كله: كلمة (حد)، فاللفظ قد يكون في كلام الشارع على غير ما يستخدمه الناس، ويحددونه، ويصطلحون عليه. وهناك مثال آخر واضح جداً وهو: النسخ، فالنسخ في اصطلاح المتأخرين: هو إزالة حكم سابق بحكم متأخر لاحق، فمعنى ذلك: أن حكماً ما كان ثابتاً، فجاء حكم آخر بعده فأزاله؛ لأن النسخ في اللغة هو: الإزالة أو النقل، كما في قوله تعالى: (( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ))[الجاثية:29] أي: نكتبه وننقله، ولهذا يقول ابن عباس : [ هذا فيها دليل على القدر ]، يعني: أن الملائكة تكتب من اللوح مباشرة، كما تنقلون أنتم ما في اللوح مباشرة، إذاً فهو نقل الحكم من الحل إلى الإباحة، أو من الإباحة إلى الحل مثلاً، فالمتأخرون من الفقهاء والأصوليين عندهم النسخ بهذا المعنى المقيد.ولذلك لو قلت لواحد منهم: أعطني دليلاً على النسخ فقد يأتيك بعشرة أدلة، وقد يأتيك بخمسة أمثلة، ويمكنك أن ترد منها اثنين أو ثلاثة أحياناً؛ لأنها لا ينطبق عليها أنها تغيير للحكم، وإنما تدخل في العام والخاص، وفي المطلق والمقيد. إذاً: فالسلف كـابن عباس و عكرمة و عطاء و مجاهد وغيرهم رضي الله تعالى عنهم إذا قالوا: هذا منسوخ؛ فإنهم يعنون: أنه منسوخ بالمعنى الذي يعنيه الفقهاء، ويعنون أيضاً أنه مخصص، أو مقيد، أي: أن عمومه ليس باقياً، فيكون النسخ عند السلف أعم منه في كلام المتأخرين أو الأصوليين. إذاً: فالإشكال يأتي عندما حمل كلام السلف في النسخ على ما يعنيه العلماء المتأخرون، أو العكس.وفي علم مصطلح الحديث نجد كثيراً من العلماء يقولون: هذا حديث صحيح، وهذا حديث حسن، وبعض العلماء يقول: لا، إما صحيح، أو ضعيف، بل إن بعضهم -وهو ابن حزم - يقول: إما صحيح، أو موضوع، ويعني: إما أنه ثابت، أو غير ثابت.فكلمة: الحسن هي اصطلاح معين قاله بعض العلماء، وأكثر منه الإمام الترمذي ، ثم أصبح بعد ذلك هو القاعدة العامة تقريباً، وشرطه: خفة الضبط إذا ما قورن بالحديث الصحيح.فهذه الكلمة لو أن قائلاً قالها قبل أن يتحدد هذا الاصطلاح فإنا نحمل كلامه على أنه المعنى اللغوي، أي: أنه جيد ومقبول، فهو صحيح عنده، لكن بعد أن تحدد الاصطلاح فإنا لا نحمل هذه الكلمة على معناها العام، وقس على ذلك أشياء كثيرة. ومثال آخر: أن بعض العلماء يقولون: إن المياه ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر، ونجس، فيفرقون بين الطهور والطاهر، فينبغي أن تراعي كلمة (طاهر)، فإن كان قائلها ممن يقول بالقسمة الثلاثية؛ فكلمة (طاهر) عنده تكون بمعنى: الطاهر في نفسه، غير المطهر لغيره. فلو جاء أحد الناس وقال: هذا الماء طاهر، ثم قال مثلاً: وهو طاهر يجوز التوضؤ به، أو يرفع الحدث؛ لأنه طاهر، فتقول أنت: لا، بل هو طهور، فهذا أخطأ ولابد من تعديله، فنقول: لا، هو غير ملزم باصطلاحك أنت، أو بما درست أنت، فهو لا يرى أن القسمة ثلاثية، وإنما هي عنده ثنائية وهكذا.إذاً: فهذه قاعدة يمكن أن نأتي عليها بأمثلة كثيرة.فالمقصود: أن من أسباب الخطأ أحياناً: عدم فهم الاصطلاح الذي وضعه العلماء أو قرروه، ومن هنا قال قائلهم عياذاً بالله: إن الفقر هو الله -تعالى الله عن ذلك- وارتبط في ذهنه أن الفقر هو أصل كل خير، والصحيح في معنى الحديث: ( فيّ الضعفاء والمساكين )، وحديث: ( اللهم أحيني مسكيناً ): أنه التواضع والإخبات.