وهذا فيه عدة حكم، ومن ذلك: أن هذا المؤمن مهما ابتلي وامتحن فإن في هذا تمحيصاً له، وزيادة في الإيمان، (( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ))[العنكبوت:2]، فلا تؤخذ الجنة هكذا من غير ابتلاء، ولا امتحان في الدنيا، (( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ))[البقرة:155]، ولو لم يكن من ذلك إلا الاستهزاء من الناس، وسقوط الإنسان من أعين كثير من الخلق إذا اهتدى وتمسك بدينه، فلا بد من تضحيات، ( ألا إن سلعة الله غالية ألا وإن سلعة الله الجنة ).
فلما جاء أبو جندل مهاجراً هو وأصحابه لم يقبله النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل بشروط قريش وردهم، وقريش تضطهدهم، فذهبوا وكونوا عصابة لقطع طريق القوافل، فآذوا قريشاً إيذاءً عظيماً، ولا تستطيع قريش أن تحاسب عليهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم ليسوا تحت حكمه، وهو لم يقبل منهم أحداً، ولا تستطيع أن تسيطر عليهم قريش؛ لأنهم كانوا هاربين في الجبال، وفي أماكن بعيدة.
فالمهم: أن هؤلاء كانوا مما أظهر الله به صدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه معه، ومؤيده، ولن يضيعه كما قال صلى الله عليه وسلم، فإذا بقريش تأتي بنفسها وتطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبلهم، وتتنازل عن هذا الشرط، وأن يكفوا أذاهم عنها؛ حكمة من الله، فهذا الصلح كان فيه ما فيه من المشقة على المسلمين، وكان الله ورسوله أعمل بما فيه من المصلحة، (وكان عمر فيمن كره ذلك؛ حتى قال لرسول الله: ( ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ ) ) أي: لماذا نرضى بالشروط المجحفة؟ وقريش تشمخ بأنفها وتقول: أرغمناه على ألا يعتمر، وأن يذهب ويعود من العام القابل، وأن من آمن واتبعه من أبناء قبيلتنا فإنهم لا يهاجرون إليه، وأما من كفر فيرجع، وهي شروط ظاهرها الإجحاف.
فكان المشركون يفتخرون بذلك، وهذا من إملاء الله، فلا يجوز للمسلم أن يغتر بإملاء الله لهؤلاء؛ ولهذا يقول الله: (( فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ))[مريم:84]، وكثير من الناس يقول سبحان الله! كيف أن الله يمكن لهؤلاء! وكيف يملي لهم وكيف يمهلهم! وهذا من قصور البشر أما حكمة الله وعلمه فهو أعظم من ذلك بكثير، فلا تغرنك دائماً الأمور الظاهرة، فقد ترى شيئاً في ظاهره شر، ولكن في باطنه خير كثير؛ ولهذا يقول الله: (( فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ))[النساء:19]، فكره الصحابة ذلك، وجعل الله فيه خيراً كثيراً، ولا شك أن ثماره وخيراته كانت واضحة.
ومن ذلك أن قريشاً إنما كانت تريد الدنيا، فبمجرد ما وضعت الهدنة وكتبت؛ انصرفت قريش لتجارتها ودنياها، وفي ذلك الوقت كانت حادثة مقابلة أبي سفيان لـهرقل ، فإن هرقل لما سأله عن نسبه وشرفه وغير هذا كان يجيب، ولم يجد مغمزاً ولا مطعناً، وعندما سأله كيف حروبه؟ وجد مطعناً فقال: يوم له، ويوم عليه، ونحن وهو الآن في هدنة، فلا ندري ماذا سيصنع، أي: قد يغدر بنا، فكان يتكلم عن هذه الهدنة.
إذاً: فشيخ قريش وكبيرها وقائدها ذهب في تجارته إلى الشام ، وذهبوا إلى دنياهم، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد تفرغ لدعوة الله، ونشر دينه، فنفعته الهدنة؛ ولذلك لما دخلوا عام الفتح كانوا عشرة آلاف، ولو دخلوا تلك السنة لكانوا ألفاً وأربعمائة.
يقول: (فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه ) ) أي: أن هذا وحي، ولكن عمر لم يتحمل ذلك، فقال: ( ( أفلم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت، ونطوف به؟ -يريد أن يحاج النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: بلى، أقلت لك: إنك تأتيه العام ) )، فالنبي صلى الله عليه وسلم نبهه هنا إلى أن الوعد كان مطلقاً ولم يقيد بهذا العام، فالله إذا وعد رسوله فإن الوعد يظل على إطلاقه ما لم يقيد، كما قال تعالى: (( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ))[الفتح:27]، ولم يذكر زمن ذلك.
ورؤية يوسف عليه السلام: (( إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ))[يوسف:4] تحققت بعد أربعين عاماً، وهي حق.
إذاً: فالوعد -وإن كان حقاً- لا ندري متى يكون تحقيقه إلا إذا جاء ذلك من عند الله.
(فقال عمر : ( لا، قال: إنك آتيه ومطوف به ) ) يعني: بإذن الله، لكن ليس هذا العام، فأتى عمر إلى أبي بكر (فقال له: مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم) وهنا يظهر فضل أبي بكر على عمر ، وهما أفضل وخير هذه الأمة، لكن هنا يظهر فضل الصديق، (فرد عليه أبو بكر بمثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يكن قد سمع جواب النبي صلى الله عليه وسلم) فلم يكن معهم، ومع ذلك قال: [ يا عمر!! إنه رسول الله، والله ناصره، ثم قال: يا عمر ! أقال: في عامنا هذا؟ ]، وهذا دليل على أن الصديق أعلى درجة من المحدَّث؛ لأن الصديق هو يواطئ قلبه قلب النبي مواطئة تامة، ونعني به: الصديق الكامل، وأكمل الصديقين: أبو بكر ، وأما المحدث فهو أقل منه درجة، فقد يواطئ قلبه قلب النبي، وقد يخالفه.
قال: (فكان أبو بكر أكمل موافقة لله وللنبي صلى الله عليه وسلم من عمر) ورجع عمر عن ذلك، وقال: في آخر الحديث في البخاري وغيره: [ فعملت لذلك أعمالاً ] يعني: عمل أعمالاً لذلك الموقف، فأعتق رقاباً، وتصدق، واجتهد في كثير من أمور الخير؛ ليكفر الله عنه خطأه في ذلك اليوم؛ مع أن ذلك كان غيرةً لله، ولم يكن لأجل حظ النفس، أو انتصاراً للرأي أو للهوى الشخصي، فحادثة الحديبية هذه مما خالف فيه المحدَّث الوحي.