النوع الثالث: العبارات التي قد يفهم منها مخالفة السلف لتعريف الإيمان بأنه قول وعمل، وأشهر هذه العبارات وأكثرها تداولاً في الكتب هي التي تقدمت الإشارة إليها، وهي أن الإيمان: قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان.
فهذه العبارة قد يقول قائل عنها: إنها تختلف عن تلك، مع أنها هذه جاءت عن السلف، ويبدو أن اختيار هذه العبارة عند المتأخرين لأنه ظن بعضهم أنه عندما نقول: الإيمان قول وعمل؛ فإن القول هو القول باللسان، والعمل هو عمل الجوارح، فيقول قائل: وأين الاعتقاد وما في القلب من التصديق؟! فلهذا جعلناها ثلاثة فقلنا: هو قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، حتى نحتاط ونحترز، ولا ندع مدخلاً للمرجئة ولا لغيرهم، وهذا الذي يبدو أن المتأخرين من الأئمة والعلماء نظروا إليه.
ولا ريب في أن السلف الصالح لا يمكن أن يهملوا أعمال القلوب وهي الأساس والأصل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب )، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: [القلب ملك والأعضاء جنوده]، فهي جنوده تأتمر بأمره.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله ما في تشبيه ومثال أبي هريرة من البلاغة، ثم قال: لكن العبارة النبوية أبلغ في المعنى؛ لأنها جعلت الجسد والقلب يجمعهما شيء واحد وهو الإنسان، فالإنسان حقيقته القلب والجسد، فهما مترابطان يكونان شيئاً واحداً هو الإنسان، والترابط بين أجزاء الشيء الواحد والحقيقة الواحدة أقوى من الترابط بين الملك والجنود، ففي حقيقة الأمر قد يأمر الملك بأمر ولا يطيعه بعض الجنود إما في الظاهر وإما في الباطن، ولكن ارتباط القلب بالجوارح أعمق من ذلك، فلا يمكن أن يكون شيء من الجوارح إلا تابعاً ومرتبطاً بالقلب.
ولذا لا يمكن ولا يعقل أن يهمل السلف عمل القلب، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: [اليقين الإيمان كله]، وتكلموا في المحبة، وتكلموا في الرضا، وتكلموا في الإخلاص والنية إلى غير ذلك مما لا يمكن حصره في هذا الشأن.
فلا يمكن ولا يتصور ولا يتخيل أن يهملوا علم القلب، ولكنهم لما قالوا: قول وعمل أرادوا قول القلب وعمل القلب مع قول اللسان وعمل الجوارح، إلا أنه لما فهم المرجئة من جهة هذا الكلام خطأ، أو ظن بعض العلماء أنه بهذا نقطع الطريق على المرجئة ، جعلت العبارة ثلاثية.