فنقول وبالله التوفيق: إن بعض عبارات السلف الصالح وردت في كتب مشهورة معتمدة، مثل كتاب السنة للإمام عبد الله بن أحمد ، ومثل كتاب اللالكائي ، ومثل كتاب الآجري وابن بطة وأمثالهم من الأئمة، واشتملت هذه الكتب على عبارات لبعض السلف تختلف عما سبق إيراده من أن حقيقة الإيمان أنه قول وعمل، وإذا فصلنا بعض ما جاء في هذه العبارات فإننا سنجدها على أنواع:
النوع الأول: أن يعرف الإيمان ببعض خصاله وشعبه، كما عرف عبد الله بن مسعود الإيمان بما ذكره البخاري عنه تعليقاً، حيث عرف الإيمان ببعض شعبه فقال: [ واليقين الإيمان كله ] لبيان أهمية هذه الشعبة، فليس المقصود أن الإيمان هو اليقين بمعنى أنه لا يدخل في ذلك شيء من أعمال القلب والجوارح، ولكنه يريد التنبيه على أهمية اليقين وأنه أصل العمل الظاهر والباطن، فهو -إذاً- جوهر ولب الإيمان، ولذلك قال عن الصبر: إنه نصف الإيمان؛ لأن أداء الواجب شيء والصبر عليه شيء آخر، ويتضمن ذلك قوله تعالى: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ))[الفاتحة:5]، وفهم السلف دائماً مأخوذ من القرآن ومن السنة، فقوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) هو الواجب والغاية التي خلقنا من أجلها، والعمل الذي يجب أن نعمله، فهذا شطر، والشطر الآخر (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وهذا يدخل فيه الصبر؛ لأننا نصبر على الطاعة مستعينين بالله، كما قال الله تعالى: (( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ))[البقرة:45].
ثم قال: [ واليقين الإيمان كله ] فمرجع الإيمان كله إلى اليقين، فهو معقده وجوهره، فلا تعارض بين هذه العبارة وبين أن الدين قول وعمل.
وأما من قال من العلماء: إن الإيمان هو الصبر والشكر فقوله لا ينافي ذلك أيضاً؛ لأن حال المؤمن في هذه الدنيا لا يخلو من أمرين: إما نعماء وإما ضراء، فإما أن يحصل ما يفرحه ويريحه ويسره، وإما أن يحصل ما يؤذيه ويؤلمه، فحاله دائماً بين هذين الأمرين، فالواجب عليه فيما يفرح ويسر هو الشكر، والواجب عليه في الآخر -وهو ما يؤلم ويؤذي- هو الصبر، فكأنك إذا قلت: إن الإيمان هو الصبر والشكر تكون قد أدخلت الأعمال في الإيمان، أعمال القلوب وأعمال الجوارح؛ فإن فعلت الحسنات وسرتك فاحمد الله واشكره، وإن ابتليت بفتنة فلم تستطع أن تؤدي الفريضة والطاعة إلا بمجاهدة ومكابدة فاصبر واحتسب ذلك، وإن ابتليت بمصيبة في دنياك فعليك أن تصبر وتحتسب.
فإذا شكر العبد على النعماء وصبر في الضراء فقد حقق الإيمان بإذن الله تعالى، وهذا هو مقصودهم من قولهم: الإيمان هو الصبر والشكر، فهم لم يقصدوا حقيقة التعريف الاصطلاحية، وإنما قصدوا التنبيه إلى أهمية هذه الأعمال، وإذا تأمل المتأمل وجد أن هذه الخلال هي معقد ولب وجوهر الإيمان، وإن كانت الأعمال كثيرة، إلا أنها ترجع إلى هذا الشعبة بوجه ما من وجوه النظر، أو بتأمل ما ممن رزقه الله التأمل والتدبر.