الصفة الثانية: الإنفاق من إقتار.الإنفاق عن غنى هو أمر لا بد منه، سواء كان الحق الذي فرضه الله تبارك وتعالى في أموال الأغنياء من الزكاة أو الحقوق الأخرى؛ لأن في المال حقاً سوى الزكاة، وذلك كحق الأهل في المال، وحق الضيف، وحق الجار إذا كان محتاجاً، وهناك حقوق أخرى في المال تدخل في الحق الواجب، وبعضها يدخل في المندوب، فإذا كان الإنسان ينفق ويتصدق عن غنى فإنه لن يستكمل الإيمان حتى ينفق عن الإقتار والإملاق وقلة ذات اليد، وأن يعطي الصدقة التي قال عنها صلى الله عليه وسلم لما قيل له: (
ما أفضل الصدقة؟ فقال: أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وترجو الغنى ) أي: أن الإنسان إذا حضره الموت فأوصى بخير، فإنه قد فعل خيراً؛ لأن
من خير ما يختم الإنسان به حياته أن يوصي لله عز وجل بشيء مما أنعم به عليه، لكن الأفضل من ذلك هو الإنفاق في حال الرخاء والصحة، وفي الحالة التي يريد المرء أن يجمع المال خشية الفقر، ويطمع أن يغنيه الله تبارك وتعالى عن الناس؛ لأنه في هذه الحالة أنفق طائعاً راضياً سراً أو علانية لوجه الله عز وجل في حالة الإقتار، وهذا دليل على استكمال الإيمان، ولذلك أثنى الله تبارك وتعالى على الأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان بأنهم يحبون من هاجر إليهم، ثم بين الله عز وجل أن من أعظم صفاتهم في تعاملهم مع إخوانهم المهاجرين أنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فمهما كانت حاجتهم فإنهم يؤثرون إخوانهم، وقد ضربوا بذلك أروع الأمثلة رضي الله تعالى عنهم، مع أنهم كانوا مجتمعاً فقيراً محدود الموارد استقبل إخواناً له في العقيدة بجموع غفيرة، وكانت الهجرة حينها واجبة متعينة على كل مؤمن، فكلما آمن أحد وأتى إلى
المدينة ، إلى هؤلاء الأنصار مع فقرهم ومع ما هم عليه من الحالة المعروفة عند عامة العرب في ذلك الحين، فقد كانوا ينتظرون مطر السماء، فإن تأخر المطر جاء القحط وهلكت الزروع، فيعانون الضنك والشدة والضيق، وأكثرهم -رضي الله تعالى عنهم- كانوا فقراء، ومع ذلك فلما جاءهم إخوانهم في الإيمان والعقيدة آثروهم على أنفسهم رغم ما بهم من خصاصة، فتحلى الطرفان رضي الله تعالى عنهم بخير الأخلاق.أما المهاجرون فإن الجاهل يحسبهم أغنياء من التعفف، ولا يسألون الناس إلحافاً، وكان لهم من عزة النفس وعلوها وكرمها الشيء العظيم، حتى كان الواحد منهم يُرى أنه من أغنى الناس، وأنه لا يحتاج أحداً وهو من أشدهم حاجة في تلك اللحظة.وأما الطرف الآخر وهم الأنصار رضي الله تعالى عنهم فقد قابلوهم بالمحبة وبالإكرام وبالإيثار، فلله ما أعظم هذا الخلق من الطرفين رضي الله تعالى عنهم أجمعين.