ثانياً: في اسم مرتكب الكبيرة؛ لأن الباب دائماً في كتب العقائد تجدونه: كتاب أو باب الأسماء والأحكام، فبماذا يسمى مرتكب الكبيرة عندهم؟ مؤمن، أي: مؤمناً كامل الإيمان، وعند
أهل السنة والجماعة يقولون: فاسق، مرتكب كبيرة، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فيسمونه باسم الذنب الذي عمله، فإن كان قاتلاً يقولون: قاتل أو سارق أو زان، ولا يخرجونه من الملة.إذاً: الفرق هو ما يسميه شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله على الطريقة المنطقية أو اللغوية، فما الذي يثبت لمرتكب الكبيرة؟ وما الذي ينفي عنه؟ يثبت له مطلق الإيمان الذي به يكون من أهل القبلة، ولا يخرج من الدين وإن زنى وإن سرق، لكن الإيمان المطلق هل يثبت لمرتكب الكبيرة؟ لا؛ لأن ما فعل من الذنب يتنافى مع ذلك، والإيمان المطلق هو الذي جعله الله تبارك وتعالى مدحاً لعباده المؤمنين الذين أثنى عليهم، وجعلهم أهل الإيمان وأهل الجنة، حيث قال: ((
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ))[الأنفال:2]، وفي غيرها: ((
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ))[الحجرات:15]، وكذلك: ((
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ))[المؤمنون:1]، فما هي الصفات التي يتوقع أن تأتي عقب هذا الوصف؟ إن هذا الإطلاق (المؤمنون) لن يأتي لمن زنى أو سرق أو غش، وإنما قال: ((
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ))[المؤمنون:1-2]، وما قال: "الذين يصلون…"؛ لأن الذين يصلون قد يصلون ولكنهم أهل كبائر، فهم مجرد أن لديهم مطلق الإيمان، لكن الإيمان المطلق: ((
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ))[المؤمنون:2]؛ ولهذا لما جاءت كبيرة الزنا وهي من أكبر الكبائر التي تطلق، والتي جاء نفي الإيمان عن صاحبها كما في الحديث، نفاها عنهم فقال: ((
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ))[المؤمنون:5]، فالزناة لا يدخلون في الإيمان المطلق الممدوح أهله المثني عليهم، لكن: ((
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ))[النساء:92] يجوز أن يحرر الزاني أو السارق أو الفاسق؛ لأن المقصود هنا هو مطلق الإيمان، فإذا وجب على الإنسان كفارة، ولديه عبد فاسق فاجر فإنه يجزئ؛ لأن المقصود في الإجزاء ليس استكمال شروط الإيمان وشرائعه، وإنما يكفي أن يطلق عليه أنه مؤمن؛ ولهذا في حديث الجارية سألها النبي صلى الله عليه وسلم عن بدهيات الأمور: (
من أنا؟ قالت: رسول الله صلى الله عليه وسلم، أين الله؟ قالت: في السماء )، وهي جارية
معاوية بن الحكم السلمي ، فعرفت أصلين من أصول العقيدة: معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعرفة أين الله، مع أنها لا بد أن تعرف أن الله هو الخالق والرازق، وهذه فطرة، لكن (أين الله؟) أخص من ذلك، وإن كانت أيضاً عقيدة فطرية، ومن يعرف هذا وهو في الظاهر من أهل الإسلام لا من أهل الكفر، فإنه قال: (اعتقها) فهي تجزئ عن أمك ؛ لأنه كما في الحديث كان على أمه نذر، أو أراد أن يتصدق عنها. إذاً: هذا الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق، وهذا أحد ما يبين أن الخلاف بين
أهل السنة والجماعة وبين
المرجئة حقيقي وليس صورياً.كما أن
المرجئة يقولون: إن الإيمان لا يتركب ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا يتفاضل أهله فيه، بينما
أهل السنة والجماعة يقولون بخلاف ذلك كله، إذ إن لديهم آيات وأحاديث تثبت أن الإيمان يتجزأ، بدليل أن الله تبارك وتعالى سمى بعض أعمال الإيمان (إيماناً)، مثل: الصلاة، قال تعالى: ((
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ))[البقرة:143]، فسماها الله تعالى: (إيماناً)، ومثل حديث وفد عبد القيس: (
قال: آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان بالله؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا الخمس من المغنم )، وحديث: (
الإيمان بضع وسبعون شعبة )، وكل الأدلة قد تقدمت على ذلك أيضاً، فيكون الخلاف حقيقياً.