رحلات الإمام البخاري ونقله معنى الإيمان عن شيوخه
أول من نبدأ في الاستشهاد بكلامه هو الإمام البخاري رحمه الله، وهو أهل لأن يُبدأ به؛ لما نعلم من إمامته ومكانته، فالإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى من أئمة أهل السنة الذين فقهوا هذا الدين عملاً ودعوةً وجهاداً، ونقلوه بأمانةٍ وحفظٍ وصدقٍ لا مثيل له في تاريخ الأديان الأخرى على الإطلاق، فهو من حفاظ الأمة المعروفين المعدودين. وقد نقل عقيدته في هذه المسألة الإمام اللالكائي في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة بسندٍ صحيح -كما نقل الحافظ في الفتح - عن الإمام البخاري رحمه الله تعالى، حيث قال رحمه الله تعالى: (لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم، أهل الحجاز و مكة و المدينة و الكوفة و البصرة و واسط و بغداد و الشام و مصر ، لقيتهم كراتٍ قرناً بعد قرنٍ، ثم قرناً بعد قرن، أدركتهم وهم متوافرون منذ أكثر من ستٍ وأربعين سنة).وهذا الكلام يدل على أن ذلك في آخر الأمر بعد أن رحل وجمع العلم وزارهم مرات كما سيذكر، وقوله: (وقرناً بعد قرن) يعني: طبقة بعد طبقة من طبقات العلماء. فالإمام البخاري رحمه الله يعطينا خلاصة حياةٍ وتجربةٍ واطلاعٍ وأخذٍ وتلق للعلم من أكثر من ألف رجل، ولو أن واحداً منا أراد أن يعد من لقي من العلماء أو من سمع له شريطاً أو قرأ له كتاباً؛ فلن يجاوز عددهم عشرين أو ثلاثين. يقول: (أدركتهم وهم متوافرون منذ أكثر من ستٍ وأربعين سنة)، أي: منذ أن بدأ يرحل في طلب العلم إلى أن قال هذا القول. يقول: (أهل الشام و مصر و الجزيرة مرتين، والبصرة أربع مرات، في سنين ذوي عدد)، يعني: أقام بها أربع مرات، وكل مرة كذا من السنوات، (وبـالحجاز ستة أعوام) وهو مقيم يتعلم ويطلب العلم، (ولا أُحصي كم دخلت الكوفة و بغداد)، فدخلهما عدة مرات رضي الله تعالى عنه يتلقى العلم النقي من كل الشوائب، (مع محدثي أهل خراسان)، أي: مع محدثي أقرب البلاد إليه، وهم أهل خراسان .فهو يقول: هذه الأمصار أمصار الإسلام ومراكز العلم فيه، زرتها مراراً وتكراراً، وأخذت عن طبقات أهل العلم فيها ممن أدركتهم منذ كذا سنة، وهم أكثر من ألف رجل، فمن هم هؤلاء؟ وما هي عقائدهم؟ قال: (منهم: المكي ابن إبراهيم ويحيى بن يحيى وعلي بن الحسن وشقيق وقتيبة بن سعيد وشهاب بن معمر من خراسان ، وبـالشام محمد بن يوسف الفريابي وأبا مسفر عبد الأعلى بن مسفر وأبا المغيرة عبد القدوس بن الحجاج وأبا اليمان الحكم بن نافع ومن بعدهم عدة كثيرة، وبـمصر يحيى بن كثير وأبا صالح كاتب الليث بن سعد وسعيد بن أبي مريم وأصبغ بن الفرج ونعيم بن حماد ، وبـمكة عبد الله بن يزيد المقري والحميدي وسليمان بن حرب قاضي مكة وأحمد بن محمد الأزرقي ، وبـالمدينة إسماعيل بن أبي أويس ومطرف بن عبد الله وعبد الله بن نافع الزبيري ، وأحمد بن أبي بكر أبا مصعب الزهري ، وإبراهيم بن حمزة الزبيري وإبراهيم بن المنذر الحزامي ، وبـالبصرة أبا عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني ، وأبا الوليد هشام بن عبد الملك والحجاج بن منهال وعلي بن عبد الله بن جعفر المديني ، وبـالكوفة أبا نعيم الفضل بن دكين وعبيد الله بن موسى وأحمد بن يونس وقبيصة بن عقبة وابن نمير وعبد الله وعثمان ابنا أبي شيبة)، ونكتفي بتسمية هؤلاء اختصاراً. وهؤلاء هم أعلام الدنيا في أيامهم، فكل بلد هؤلاء هم أعلامه من المحدثين، وأكثر ما اشتهروا به هو الحديث، وكذلك كان لهم باع في التفسير والفقه، والحديث والتفسير لم يكونا منفصلين، فقد كان أعلم الناس بالحديث هو أعلمهم أيضاً بالتفسير. يقول: (فما رأيت واحداً منهم يختلف في هذه الأشياء)، يعني أن عقيدتهم إجماعية على الأمور الآتية: أولاً: (أن الدين قولٌ وعمل). فمن ذكر من الأسماء ومن لم يذكر إلى آخر الألف لم ير واحداً منهم يخالف في هذه المسألة، وهو من نعلم حين يقول: لم أجد، أو: لم أر، فالإمام البخاري رحمه الله حجة، ولا شك في ذلك، فهو يخبر أنه ما وجد واحداً منهم إلا وعقيدته في الإيمان أنه قولٌ وعمل. قال رحمه الله تعالى: (وذلك لقول الله: (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ))[البينة:5]). وقد اشتهر عن إمام من أئمة الإسلام أنه كان يجادل المرجئة ويرد عليهم بهذه الآية، وهو الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فقد صح عنه أنه قال: هذه الآية تكفي في إبطال مذهب المرجئة ؛ لأن الله تعالى بين فيها أن الدين الذي أمر به عباده من أهل الكتاب ومن بعدهم هو أن يعبدوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فالدين هو هذه الأعمال العبادة والصلاة والزكاة، فكيف يقال: إن الدين مجرد قول أو اعتقاد وليس عملاً؟! والله تعالى بين هذا الذي أمروا به بطريقة الحصر، فقال: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ))[البينة:5] ، والحال أنهم مخلصون له الدين. فالإخلاص هو القول والعمل القلبي، وعمل الجوارح إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وغيرهما، فالدين قول وعمل بالقلب والجوارح، وهذا من عظيم الفقه والاستنباط عند الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه. ولقد اختار الإمام البخاري رحمه الله هذه الآية؛ لأنها من أجلى الأدلة وأوضحها، فتبع الشافعي في هذا الدليل؛ إذ الإجماع لا بد له من مستند، وهذا من فقه الإمام البخاري رحمه الله، فأي إجماع ينعقد لا بد له من مستند نصي، سواء كان آية أو حديثاً؛ لأن الإجماع يقطع ما بعده، ولا حجة بعد قيام الإجماع من السلف الصالح لأحد ولا عذر له في أن يخالفه، فيكفي أن تأتي بآية واحدة أو حديث واحد لتبين مستند الإجماع. فالإمام البخاري رحمه الله تعالى يقول: مستند الإجماع هذه الآية، وانتقاها لما فيها من معان وحكمة في الانتقاء. ثم ذكر بعد ذلك عقيدة السلف في أمور كثيرة، ونحن نقتصر على ما يتعلق بتعريف الإيمان فقط. يقول: (ولم يكونوا يكفرون أحداً من أهل القبلة بالذنب؛ لقوله: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48]).أي: لم يكونوا يكفرون أحداً من أهل القبلة بما دون الشرك؛ لأن الله تعالى قال: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48]، فمستند الإجماع على أن أصحاب المعاصي والذنوب لا يكفرون ما لم يرتكبوا الشرك أو الكفر هو هذه الآية الجلية: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48]. فهذه عقيدة الإمام البخاري وما نقل من إجماع الأمة على هذه العقيدة.