منهج الصحابة في بيان حقيقة الإيمان
ثم لما كان الصحابة أو التابعون من بعدهم يُسألون عن الإيمان وحقيقة الدين؛ كانوا يجيبون بأنه قولٌ وعمل، يجيبون بالحكمة بحسب ما يرون من حال السائل، فإن كان ولا بد من جواب علمي يفيده فإن هذا الجواب لا يتخذ الشكل الاصطلاحي الفلسفي أبداً، فقد جاء رجل إلى أبي ذر أو إلى الحسن رضي الله تعالى عنهما يسأله عن الإيمان، فأجابه بآية من كتاب الله، وهي قول الله تعالى: (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ... ))[البقرة:177] فالمسألة ليست أن يقول: هو في لغة العرب كذا، وأما في اصطلاحنا فهو كذا، بل المسألة حقائق واضحة، وكأنه يقول له: إذا كنت تقرأ القرآن فالدين ما جاء في القرآن، فالبر هو الدين، والدين هو الإسلام، والإسلام هو التقوى وهو البر، كما سبق أن ذكرنا ذلك نقلاً عن كتاب الإيمان لـشيخ الإسلام رحمه الله تعالى فيما يختص بالألفاظ المشتركة التي تتفق دلالتها أو تختلف بحسب الاقتران والافتراق. بل إن جواب النبي صلى الله عليه وسلم لما أجاب جبريل عليه السلام يعتبر أنموذجاً في الجواب، ودليل ذلك أنه حين ظهرت بدعة القدرية وكانت هي السبب الذي من أجله روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه حديث جبريل عن أبيه، حيث قال لسائله عنهم: [ أخبرهم أنني منهم براء وأنهم مني براء ]، ثم ساق حديث عمر رضي الله عنه؛ ليبين أن الإيمان بالقدر ركن، وبين حقيقة الدين بالنص نفسه. وجاء زبيد اليامي يسأل أبا وائل شقيق بن سلمة -كما في البخاري - عن المرجئة ، وذلك حين ظهرت وعم ضررها وشرها، فيأتي إليه وكان أبو وائل من تلاميذ عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، فلم يقل له: هي مأخوذة من أرجأ يرجئ بمعنى كذا، وخرجت عام كذا، ورأينا فيها كذا، بل أجابه بحجة مقنعة قوية، وبأفضل أسلوب لو ربيت الأمة عليه لارتاحت من المجادلات العقيمة الطويلة، مع أنا لا نعترض على المناهج الاصطلاحية، فهذه المناهج قررت حين أصبح الناس يريدون أن يفهموا من خلالها، ولكن لماذا لا نعيد الناس ما استطعنا إلى التربية الإيمانية الأساسية التي نستطيع معها أن نقول لكل إنسان الآية أو الحديث فيفهم ولو لم يعبر عن المراد تعبيراً اصطلاحياً منطقياً؟! لقد أجاب أبو وائل زبيداً فقال له: حدثني عبد الله -أي: عبد الله بن مسعود - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) وانتهى، وفهم زبيد من هذا الحديث أن الإرجاء مذهب باطل، فـالمرجئة التي تقول: إن الإيمان لا يدخل فيه العمل يقال لهم: كيف يكون ذلك وهو إذا سب فسق وإذا قاتل كفر؟! فلابد من أن تكون الأعمال من الإيمان، والمرجئة تقول: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وكيف لا يزيد ولا ينقص وإيمان من قاتل مسلماً أقل من إيمان من سبّه، وإيمان من سلم من القتل والسب أكمل؟! فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده )، فالذي يسب المسلمين أو يقاتلهم كيف يكون كامل الإيمان؟! فهؤلاء كانوا يجيبون بالآية، ويجيبون بالحديث، ويقتنع الناس، ولا شك في أن الأمة كانت مهيأةً لأن تقتنع بالنص، وهذا الذي يجب علينا نحن -الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى من المعلمين والخطباء والوعاظ والمدرسين- أن نربي الأمة عليه، فنربيها على أن تقف عند (قال الله) و(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولن نجد أوضح ولا أبين من بيان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كان منهجهم في تعريف الإيمان في الأصل هو ما ذكرناه، ثم ظهرت الفرق وتفلسفت وبدأت تقول: الإيمان قول، أو قول وعمل، وما معنى العمل؟ وما معنى القول؟ وهل أعمال الجوارح داخلة فيه أم لا؟ هنا نجد آيةً أخرى من آيات الله تبارك وتعالى، وهي أن الله عز وجل إنما اختار ذلك الجيل الكريم المبارك لِحِكْمٍ عظيمة، فهم أكثر الناس فقهاً في دين الله وأعلم الناس بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقل الناس تكلفاً كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه في وصفهم، وأعلم الناس وأفقههم وأعرفهم بحدود ما أنزل الله.