والقول الآخر أنه لا يشترط الإعلام بما نال من عرضه وقذفه واغتابه، فكل بني آدم خطاء، ومما ينبغي أن يكون معلوماً أن أكثر ذنوب العباد فيما بينهم، فحال أكثر الناس أن يخطئوا وأن يذنبوا وأن يقصروا في حقوق العباد.قالوا: فالحل في مثل هذه الحالة هو التوبة والندم والاستغفار بين العبد وربه تعالى، ولا سيما في حالة الغيبة، والقذف وهو من أشد أنواع الغيبة، فهذا يكفيه أن يتوب بينه وبين الله وأن يستقيم ويستغفر الله تعالى، وأما ما يتعلق بحق الآدمي فالمخرج من ذلك أن تأتي المجالس التي اغتبته فيها وتذكره بكلام عكس ما قلت، وتنفي وتكذب ما قلت أولاً في نفس ذلك المجلس، سواء أكان عند زملاء العمل، أم في مجلس الحي، أم مجلس الجماعة، فيقوم ويقول بخلاف ما قد كان قال من الغيبة، فإن قال: هو بخيل وليس فيه خير؛ فإنه يقول: هو كريم ويفعل الخير، وإن كان قد قذفه بالفاحشة -والعياذ بالله- فتوبته من هذا أن يقول: إنه عفيف وإنه كذا، وما علمنا عليه من سوء، وإنه ما فعل فاحشة؛ حتى يرى أنه كافأ ما كان قد قاله في ذلك المجلس. وفي زماننا هذا أصبحت وسائل الفاحشة والغيبة والقذف أكثر من الزمن السابق، فالكلام في الزمن السابق ما كان يتعدى المجالس، وكان أقوى الوسائل الإعلامية في الماضي الشعر، فإذا هجى امرؤ آخر بقصيدة فهذه أكبر مصيبة؛ لأن الناس يتناقلون الأشعار، ولو كان المهجو مظلوماً، فإنه يعلق به البيت الذي قاله فيه فلان، ولذلك لما قال
جرير في
الراعي النميري :
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعباً بلغت ولا كلاباأصبح كل رجل نميري يمر بمكان يقول له الناس هذا البيت، والقصيدة إنما قيلت في شاعر، حتى إن امرأة كان ينظر إليها رجل في الشارع ويتأمل مفاتنها، فقالت: عجباً! كيف تفعل هذا؟! فقال لها رجل: هذا من بني نمير. فقالت: هذا من نمير؟! لا أخذ بقول الله تعالى: ((
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ))[النور:30] ولا أخذ بقول الشاعر:
فغض الطرف إنك من نمير فالمهاجاة من شر ما يذكر، ولذا فإن علماء الجرح والتعديل رضي الله عنهم عندما يذكرون
جريراً أو
الفرزدق أو أمثالهما -كما في
تهذيب التهذيب- يقولون: كان قذافاً للمحصنات. وكذلك
أبو نواس الحسن بن هاني كما في ترجمته في
تاريخ بغداد ، فالعلماء كانوا يعيبون فيهم أنهم كانوا يقذفون المحصنات ويتعرضون للأعراض، وهذه كانت أكبر وسيلة. أما في هذا الزمان فقد فتحت فيه الصحافة والتلفاز والعياذ بالله، ففيهما يغتابون ويقعون في الأعراض بحيث ينتشر ذلك إلى الملايين، وأكثر من يشتم ويقذف في الصحافة العالمية والعربية هم الدعاة وأهل الخير وحملة الرسالة وورثة الأنبياء، فالقذف ما أصبح في مجلس واحد، بل أصبح القذف على مستوى ملايين من الناس، فتسمع الصحافة تقول: الانتهازيون والفوضويون والمتعطشون للدماء والمنافقون يريدون الحكم شهوة، وما غرضهم الدين، بل يتسترون بالدين ويداهنون ونحو ذلك من الكلام الشنيع الذي فيه الكفر والزندقة، كل هذا يقال فيمن يدعون الناس إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكفارة ذلك لابد من أن تكون في نفس الجهاز وبنفس القوة وبنفس التكرار، ولهذا نحذر -وما زلنا نحذر- هؤلاء الصحفيين والإعلاميين، ونقول لهم: اتقوا الله؛ لأنه يصعب تدارك ما يفوت في هذه الأمور، لاسيما أن كثيراً من الناس قد يقرأ الجريدة التي فيها القذف، ولا يقرؤها بعد أن ينشر فيها النفي، وبعض الجرائد تحتال، فتجعل القذف بعناوين بارزة، وتجعل الاعتذار بشكل خفي، فهؤلاء ما حققوا التوبة المطلوبة منهم شرعاً، ولنفرض أن من اغتابوهم ليسوا دعاة، فإن أي إنسان تكلم فيه بغير حق في الجريدة يجب عليها أن توضح ذلك وتنفيه بنفس القوة ونفس التكرار وفي نفس الجريدة، وإن كان في التلفاز أو في الإذاعة فبنفس القوة وبنفس التكرار، وإلا فإن الذي اتَّهم أو قال مؤاخذ، ولا يزال مسئولاً بين يدي الله تعالى، فلذلك كان الأمر عليهم خطيراً؛ لأنه قد يقول القول ويكذب الكذبة فتبلغ الآفاق، ولا يستطيع أن يردها، فيظل يندم ويبكي ويتحسر، ولكن الأمر قد فرط منه، كحال الممثلين والممثلات والمطربين، فقد تابت منهم طائفة، لكن كيف يتدارك المرء منهم ما فاته؟! إن بعض الممثلات تشتري كل الأفلام التي كانت تعرض فيها صوراً قبيحة ومناظر مقرفة، وأنى أن تتخلص منها وقد دخلت كل البيوت ورؤيت في كل مكان؟! إنه صعب جداً تلافي ذلك. إذاً: هذا يجعل المؤمن يحذر من أن يقع فيكون المخرج الصعب الذي يتعذر معه الخروج الكلي، فخير لك وقد عافاك الله -بل أولى وأحرى لك وواجب عليك وقد عافاك الله وسلمك- أن تحفظ نفسك عن هذا؛ لأنك لو وقعت وزلت بك القدم لا تدري كيف تخرج، وربما لا تعرف كيف تتخلص، فاحذر هذه المسألة، مع أن ما كان حقاً لله فإنه سبحانه يعفو عنه ولو كان ما كان إذا تاب العبد منه توبة نصوحاً. لكن المشكلة الحقيقية حاصلة في حق العباد، فبعض الصحفيين المأجورين أو المرتزقة يسألون عن كيفية التوبة؛ إذ إن بعض الصحفيين في
مصر ظل عشرين سنة متخصصاً في التهجم على الدعاة وهو يعلم أن كل ما كان يقوله عنهم كذب وزيف وباطل، فهو ينظر إلى توجه الدولة وما تريده الحكومة، فإن كانت تريد أن يقال فيهم: إنهم عملاء لـ
أمريكا ألصق ذلك بهم في اليوم الثاني، وإن أرادت أن يقال: هم قتلة قال: هم قتلة، وقد حدث في
مصر أن نشر في
الأهرام وأخبار اليوم أن
سيد قطب وإخوانه عملاء لـ
أمريكا ، وأعلن عن الاستعداد لإثبات ذلك، ولم يمض سوى أسبوعين إلا والصحف كلها تقول: إن منظمة
سيد قطب إرهابية تريد اغتيال السفير الأمريكي حتى تعادي بين الدولتين، وهل
أمريكا عاجزة عن قتل سفيرها حتى تستأجر هؤلاء ليقتلوه؟! المهم هو تركيب التهم. فمن هؤلاء من تاب وندم، وأرسل إلى بعض العلماء: كيف نتوب؟ لو كتب إلى الجريدة يقول: أنا كنت أكذب وألفق أيقبلون منه؟! الجواب: لا؛ لأنهم منشغلون بتهم أخرى، فلا حيلة إلا بعض المؤلفات، فالمقصود أن هذا لا يكافئ مقدار الذنب والعياذ بالله تعالى، وعلى كل حال لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فمن وقع وكان هذا حاله لا يجب عليه أن يفعل إلا ما يستطيع، لكن الكلام لمن لم يقع، فإذا اكتشف الواقع بعد حين وأنه كان مضللاً فكيف يكون المخرج؟! لاسيما أن بعض الناس لا يقبل التحليل، وقد ذكرنا فيما تقدم أن بعض السلف نظر من زاوية الرحمة ومن زاوية أنه لا يريد أن يخاصم مسلماً أبداً، فكان بعضهم يدعو الله قائلاً: (اللهم اغفر لكل من شتمني أو آذاني أو اغتابني)، هكذا بعض الناس، وبعضهم قال: والله لا أحل ما حرم الله أبدا، فشيء حرمه الله لا أحله له، فيوم القيامة أحتاج إلى الحسنات، وهذا رجل كان يقذفني ويشتمني ويشهر بي في الدنيا من دون عداوة مني له، فلم أحرم نفسي من الحسنات؟! فأنا آخذ حسناته، ووالله لا أحل ما حرم الله. وقد يكون كثير من الناس هذا حاله، أي: لا يحله أبداً، فالواجب على الإنسان أن يحذر من الوقوع، فإذا وقع فللفقهاء ما ذكرنا من الآراء، والرأي الثاني قال عنه
ابن القيم رحمه الله: (وهذا اختيار شيخنا
أبي العباس بن تيمية قدس الله روحه، واحتج أصحاب هذه المقالة بأن إعلامه مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة؛ فإنه لا يزيده إلا أذىً وحنقاً وغماً وقد كان مستريحاً قبل سماعه ... وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه فضلاً عن أن يوجبه ويأمر به، قالوا: وربما كان إعلامه سبباً للعداوة والحرب بينه وبين القائل، فلا يصف له أبداً، ويورثه علمه به عداوة وبغضاء مولدة لشر أكبر من شر الغيبة والقذف) فتكون العداوة والبغضاء أكثر، و
الشارع الحكيم إنما ينظر إلى المصالح والحكم، فالغيبة والنميمة والكذب حرمها الله لما يترتب عليها من الفساد في الأرض، والإيقاع بين الناس، فإذا قال له: قلت فيك وقلت وقلت أمام فلان وفلان على التفصيل تكون العداوة أكثر، ولا تتحقق الحكمة، بل تتحقق -في الحقيقة- مفسدة لا مصلحة فيها، وأسوأ من ذلك لو كان الأمر قذفاً بالزنا، وأسوأ من ذلك لو أنه زنى ثم جاء يتحلل منه بأنه فعل هذه الفاحشة بقريبته أو زوجته والعياذ بالله، فهذا لا شك أن فيه مفسدة عظيمة جداً، ولا يمكن أن ينشأ عنها مصلحة في أي حال من الأحوال. وقد قال أصحاب هذا القول رداً على الفريق الأول: ليس الأمر كما تقولون بالنسبة للقاتل ولغيره، ففرق بين الحقوق المالية وبين الحقوق المتعلقة بالعرض من وجهين: أحدهما: أن الحقوق المالية قد ينتفع بها إذا رجعت إليه، فلا يجوز إخفاؤها عنه، أما الغيبة والقذف ونحوهما فإخفاؤها وسترها عنه أولى، فلا انتفاع له بها ولا بشيء منها إذا رجعت إليه. والثاني: أنه إذا أعلمه بالحقوق المالية لم يؤذه، بخلاف ما لو أعلمه بما نال من عرضه وما اغتابه به، فإن ذلك يؤذيه. أما بالنسبة للربا فلا يتركه للمرابي؛ لأن تركه له إعانة عليه، فهذا له رأس ماله وهذا له رأس ماله، والحرام من الطرفين يُتخلص منه، فإذا اقترض رجل من رجل ألف ريال فقال له: أرجعها لي ألفاً ومائتين، فالمائتان في حق المرابي حرام، ففي هذه الحالة يرد له حقه فقط؛ لأن أخذ هذا حرام من غير وجه حلال، فيجب عليه أن يرجعه، وأما الآخر الذي يعطي الربا فإنه لا يجوز له أن يترك الزيادة للمرابي، وإنما يتخلص منها.