ومع أن رد الحقوق المالية ونحوها أمر معلوم فقد بقيت بعض الأمور التي أشكلت على العلماء، وذلك أن الإنسان إذا ذهب إلى صاحب الدكان أو المحل الذي عمل فيه فقال: يا أخي! أنا عملت عندك وأخذت من الدكان ألفاً أو عشرة آلاف، وهذه هي العشرة؛ فإن صاحب المحل يسر ويفرح ويدعو له ويحبه، وتكون بينهما علاقة طيبة، وهذا هو المعروف في حال الناس، أو يقول: يا أخي! أنا ضربتك يوم كذا، أو لطمت من أنت وليه، وأنا نادم مستغفر، فاقتص مني إن شئت وخذ مني ما شئت. فإن النفوس تنطوي بفطرة الله على أن هذا فيه خير وخصال طيبة حسنة. لكن المشكلة إذا كان اغتابه بكلام لا يليق، أو قذفه بالفاحشة، وهي الزنا أو اللواط، ففي هذه الحالة هل يذهب إليه ويعلمه إعلاماً عاماً يفصل له فيه فيقول: قلت فيك كذا وكذا، أو يقول: اغتبتك أو قلت فيك ما لا يليق؟ أم يعلمه إعلاماً مجملاً غير معين ولا مفصل؟ أم أنه لا يقول شيئاً من ذلك، وإنما يكتفي بالتوبة فيما بينه وبين الله؛ لأن هذه القضية تترتب عليها مفاسد عظيمة؟! ذكر رحمه الله تعالى أن الخلاف في هذه المسألة على ثلاثة أقوال، وأن الإمام
أحمد رضي الله عنه روي عنه روايتان منصوصتان في توبة القاذف: هل يعلمه ويتحلل منه أم لا؟ (ويخرج عليهما توبة المغتاب والشاتم)، وذكر أن المعروف من مذهب
الشافعي و
أبي حنيفة و
مالك أنهم يشترطون الإعلام ويشترطون التحلل، فقال: (هكذا ذكره أصحابهم في كتبهم) يعني أن المؤلفين في مذاهبهم من أتباعهم ذكروا ذلك، فهو لم يجد القول مسنداً إلى الأئمة الثلاثة بأعيانهم، لكن في كتب فقه الشافعية والحنفية والمالكية أنه لابد أن يذهب إليه ويقول له: قلت فيك كذا وكذا، ويتحلل منه. قال رحمه الله تعالى: (والذين اشترطوا ذلك احتجوا بأن الذنب حق آدمي، فلا يسقط إلا بإحلاله منه وإبرائه). هذه حجتهم، يقولون: الرجل اغتابه وقذفه، فكيف يتصور أن تسقط عنه العقوبة بغير أن يذهب إليه ويقول له: اغتبتك بكذا وكذا، أو: قذفتك بكذا وكذا؟! فإن لم يفعل ذلك فإنه لا يقع العفو في محله؛ لأنه إن قال له على سبيل الإجمال: تكلمت فيك لقال: غفر الله لك، ولو علم حقيقة ما تكلم به فيه ما قال له: غفر الله لك. فهم يقولون: لا توجد في الإجمال فائدة، فلا بد من أن يوضح له ما قال فيه. قال رحمه الله تعالى: (ثم من لم يصحح البراءة من الحق المجهول شرط إعلامه بعينه) قياساً على الحقوق المالية؛ لأنك حين تقول له: يا أخي! أخذت منك بعض النقود فأرجوك أن تسامحني؛ فإنه قد يقول: سامحك الله؛ لأنه يظنها عشرة أو عشرين أو مائة أو مائتين، أما إذا قلت له: أنا أكلت نصف المحل؛ فإنه لن يرضى؛ فلا بد من الإعلام؛ لأن البراءة من الحق المجهول لا تكفي لإسقاط العقوبة. واحتجوا كذلك بحديث: (
من كان لأخيه عنده مظلمة فليتحلله اليوم )، حيث فهموا من كلمة (يتحلله) على أن المقصود أن يعلمه على التفصيل ويطلب منه أن يعفو عنه وأن يسامحه. قال رحمه الله تعالى: (قالوا: ولأن في هذه الجناية حقين: حقاً لله وحقاً للآدمي، فالتوبة منها بتحلل الآدمي لأجل حقه، والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه). لأن ندمه هذا قد يسقط العقوبة بينه وبين الله، وهو قد أتى بحق الله الواجب على من اغتاب أو قذف، لكن حق الآدمي ما وفاه، فهو لا يزال مطالباً له به. قال رحمه الله تعالى: (قالوا: ولهذا كانت توبة القاتل لا تتم إلا بتمكين ولي الدم من نفسه)، فالقاتل إذا قتل نفساً -والعياذ بالله- لا تتم توبته إلا بأن يمكن أولياء الدم من عنقه، فإن عفوا أو قبلوا الدية فبها، وإلا فلهم حق القصاص، وكذلك توبة قاطع الطريق.