وقد ذكر رحمه الله أن هذه المسألة فيها قولان:
القول الأول: قول من يرى أنه لا توبة لهؤلاء، ولا تصح التوبة منهم ولا تقبل؛ لأسباب:
الأول: أن التوبة إنما تكون ممن يمكنه فعل الذنب وتركه، وهذا غير ممكن له أن يفعل، ولا يمكن أن يتأتى منه الذنب، بل هو من قبيل المحال.
والثاني: أن التوبة إنما تكون بمخالفة داعي النفس والهوى والشهوة، والنفس هاهنا لا داعي لها، فلا تدعو هذا الهرم أو المجبوب إلى أن يزني، ولا تدعو ذلك المقطوعة يده إلى أن يسرق، ولا تدعو من قطع لسانه إلى أن يشهد الزور.
والثالث: أن هذا الذي فقد هذا العضو حالته كحال المكره إذا أكره على أن يمتنع عن الذنب، فحيل بينه وبين الذنب بالقيود والأغلال والحبس، فكيف يكون تائباً؟!
وقالوا أيضاً: إن المستقر في أعراف الناس وفي شعورهم أن هذه التوبة لا تعد توبة، وإنما هي انقطاع وحرمان من الذنب ليس إلا.
ثم جاءوا بأدلة نقلية فقالوا: إن مما يدل على ذلك أن الله تعالى حدد للتوبة أهلاً، فقال تعالى: (( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ))[النساء:17-18].
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى معنى الجهالة في الآية فقال: (والجهالة هاهنا جهالة العمل وإن كان عالماً بالتحريم).
يعني: ليس المعنى أن العبد الذي يقبل الله توبته هو الذي يرتكب الذنب وهو جاهل بالتحريم، وإنما المقصود الجهالة حال العمل.
قال رحمه الله تعالى: (قال قتادة: [أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي الله به فهو جهالة، عمداً كان أو لم يكن، وكل من عصى الله فهو جاهل]. فالأمر الأول مما أجمع عليه الصحابة: أن كل ما عصي الله به فهو جهالة، فإن كان زناً فهو جهالة، وإن كان شرب خمر فهو جهالة، وإن كان غيبة أو نميمة فهو جهالة، فكل ذنب أو معصية أو تقصير في حق الله أو إخلال بما أوجب الله جهالة ممن فعله، ولا يعني ذلك أنه يجهل التحريم عند الفعل أو يجهل الإيجاب عند الترك، وإنما المقصود أن ترك الواجب أو فعل المحرم جهالة.
والأمر الثاني مما أجمعوا عليه: أن كل من عصى الله فهو جاهل، حتى وإن كان عالماً بكل الأحكام المتعلقة بهذا الذنب، ولا نقول: إنه جاهل بالتحريم إذا قلنا: إنه عالم به وبأحكامه، ولكنه جاهل بقدر الله وبتعظيم الله، وجاهل -أيضاً- بقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغير متأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا بهذا الواجب الذي تركه، أو نهانا عن الحرام الذي أتاه هذا الفاعل.
قال رحمه الله تعالى: (وأما التوبة من قريب فجمهور المفسرين على أنها التوبة قبل المعاينة) أي: معاينة ملائكة الموت (قال عكرمة : [قبل الموت]. وقال الضحاك: [قبل معاينة ملك الموت]. وقال السدي و الكلبي: [أن يتوب في صحته قبل مرض موته]. وفي المسند وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) ) وهو حديث صحيح.
فهؤلاء قالوا: إن التائب الذي تقبل توبته هو الذي يتوب من قريب، أما إذا دخل في سكرات الموت وعاين الملائكة فقال: إني تبت الآن؛ فإنه لا تقبل توبته، وذلك لأنها توبة اضطرار لا اختيار.
والحقيقة أن الإنسان إذا عاين ذلك فقد عاين أول منازل الآخرة، وخرج من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، حيث كان يؤمن بعذاب القبر وبالوعد والوعيد إيماناً بالغيب، كما ذكر الله في صفات عباده المؤمنين، أما وقد عاين ما عاين فقد أصبح الغيب في حقه شهادة، فلم يعد تصديقه إيماناً منه بالغيب، وإنما هو إيمان بما قد رأى ووقع فيه، كمن يقع في فخ فيرى الفخ قد بدأ ينقبض عليه، فهذا لم يعد مؤمناً بقول الذي أنذره وحذره، بل أصبح إيمانه بالمشاهد المحسوس، فتوبة مثل هذا توبة اضطرار وليست توبة اختيار، فهو مثل الذي يتوب بعد أن تطلع الشمس من مغربها أو يتوب يوم القيامة، أو عند معاينة العذاب، كما هو حال المشركين الذين حكى الله عنهم ذلك في آيات كثيرة، فلا ينفعهم أن يدعوا الله تعالى بأن يردهم أو يرجعهم، كما قال تعالى: (( لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ))[المؤمنون:100]، وكما حكى تعالى عنهم قولهم: (( إِنَّا مُوقِنُونَ ))[السجدة:12] أي: فليس هذا هو وقت العمل الصالح، ولا وقت اليقين بعد أن رأيتم ما رأيتم وعاينتم ما عاينتم.
قال رحمه الله تعالى: (قالوا: ولأن حقيقة التوبة هي كف النفس عن الفعل الذي هو متعلق النهي، والكف إنما يكون عن الأمر المقدور، وأما المحال فلا يعقل كف النفس عنه ... قالوا: ولأن الذنب عزم جازم على فعل المحرم يقترن به فعله المقدور، والتوبة منه عزم جازم على ترك المقدور يقترن به الترك) وهذا غير ممكن، هذا جملة ما استدلوا به، فعلى قول هؤلاء لا يتوب مثل هؤلاء الذين ذكرنا شأنهم.