تعليل بعض السلف للاستثناء في الإيمان
إذاً: فأنا لا أقول: إني أنا مؤمن وأجزم بذلك، وإنما أقيد ذلك فأقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو أقول: أنا مسلم، أو: أنا مؤمن ولا أدري ما حالي، فكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرى أن هذه تلزمها تلك.إذاً: فهو نظر إلى مثل ما نظر إليه الطبري رحمه الله؛ فقد نظر إلى الآيات: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ))[الحجرات:15]، (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ))[الأنفال:2]، فهو يرى أن هؤلاء أهل الجنة، (( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ))[المؤمنون:1] إلى قوله: (( أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ))[المؤمنون:10-11]، فهذه الصفات تستلزم أن يكون الإنسان من الوارثين للجنة، فما دمت لا أجزم بهذه إذاً فلا أقول بالأولى. فقال الحارث الشامي التلميذ: قال: ([ إنا لله وإنا إليه راجعون، صلَى الله على معاذ ! قال: ويحك ومن معاذ ؟ قال: معاذ بن جبل ، قال: وما ذاك؟ ]) يعني: لماذا تصلي عليه؟ وقد تقدم هذا في مبحث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: أنه تجوز الصلاة على أي أحد منفرداً، فيقال: صَلى الله على فلان، قال: ([وما ذاك؟ قال: إنه قال: إياك وزلة العالم]) أي: أنه تذكر أن هذه هي التي خوفني منها معاذ رضي الله تعالى عنه، قال: ([فأحلف بالله إنها منك لزلة يا ابن مسعود! وما الإيمان إلا أن نؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والجنة والنار، والبعث والميزان، ولنا ذنوب ما ندري ما يصنع الله فيها، فلو أنا نعلم أنها غفرت لقلنا: إنا من أهل الجنة، قال: فقال عبد الله : صدقت والله! إن كانت مني لزلة، صدقت والله إن كانت مني لزلة]).فهذا الأثر قلنا: إن في سنده ضعفاً، لكنه في الحقيقة عبرة، ولا يستبعد صدور مثله لا عن معاذ ، ولا عن عبد الله بن مسعود ، ولا عن هؤلاء النفر من التابعين رضوان الله عليهم أجمعين، ففطنه رضي الله تعالى عنه أنه ليس بالضرورة أننا إذا قلنا: إننا مؤمنون؛ أننا الموصوفون في آية الأنفال، أو آية الحجرات، أو آية المؤمنين، أو آيات التوبة أو غيرها مما جاء فيها ذكر المؤمنين، وإنما المقصود: أصل الإيمان عندنا، وهو: أننا نؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وهذه الأمور الغيبية، فنحن مؤمنون بهذا، فعندنا إذاً أصل الإيمان، وأما دخول الجنة فلا يلزم يا أبا عبد الرحمن ! لأننا مع هذا الإيمان، ومع هذا الأصل موجود لدينا لنا ذنوب، فإن غفرها الله كنا من أهل الجنة، وإن لم تغفر فلا نجزم بشيء. فهذا هو الذي ورد عنهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين.ونعود الآن إلى تفضيل الأقوال في ذلك، وأكثر من فصلها هو الإمام ابن أبي شيبة رحمه الله، وذلك ابتداء من (ص:9) من كتابه، وهي الرسالة الأولى، وقد ذكر القائلين بالاستثناء وذكر غيرهم، ونحن نريد هنا نسبة الأقوال إلى أهلها، ويمكن أن يخرج الذين يستثنون على حدة، والذين لا يقولون به على حدة، وأما هو فقد جمعهم؛ والسلف الصالح رضي الله تعالى عنهم لم يكن عندهم في التقعيد والتبويب مثل ما نحن عليه الآن، فيفصل هؤلاء عن هؤلاء، لكن نحن نقوم بذلك فنميز بينهم.