هذا هي جملة ما وجدناه من الأقوال، وبعض هؤلاء ذكره الإمام أبو عبيد رحمه الله في كتابه، وهو ضمن هذه الرسائل الأربع، وهي الرسالة الثانية، فالرسالة الأولى هي الإيمان لابن أبي شيبة ، والرسالة الثانية هي الإيمان لأبي عبيد ، وقد رأيت أنه لا بأس أن نقدم الجمع بين أقوال السلف منه، ثم نذكر بعد ذلك الآثار عنهم بالتفصيل.
يقول الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى في (ص68): وإنما كراهتهم عندنا -يعني: القائلين بإثبات الإيمان بغير استثناء- أن يثبتوا الشهادة بالإيمان؛ مخافة ما أعلمتكم في الباب الأول من التزكية، والاستكمال عند الله.
إذاً فمأخذ السلف هو ما ذكره الشارح رحمه الله عندما قال: المأخذ الثاني: أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله. فقوله فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله؛ هو الاستكمال، والتزكية، أي: أن يزكي العبد نفسه.
إذاً: فهذا هو المأخذ الذي أخذه السلف، وهو الثاني عند أولئك، وهو عند السلف المأخذ الوحيد، وقد نجعله اثنين فتكون التزكية واحد، والاستكمال واحد، فالسلف لم يكونوا ينظرون إلى ما سماه الأشعرية الموافاة، وهو الأول الذي تقدم.
إذاً: يقول: الذي جعل السلف يكرهون إثبات الإيمان بغير استثناء: هي كراهيتهم التزكية، أو الاستكمال عند الله -أي: اعتبارهم للتزكية- والاستكمال عند الله، وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعاً مؤمنين؛ لأن ولايتهم وذبائحهم وشهادتهم ومناكحتهم وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان.
يعني: أننا لو نظرنا إلى الدين باعتبار المراتب فالناس: أهل القبلة، وأهل الملة، والساكنون في ديار الإسلام وبلاده هم مسلمون، فالقول بأنهم مؤمنون في ظاهر أحكام الدنيا معناه: أنهم مسلمون وليسوا بكفار؛ ولهذا ذكر هذا ووضحه في المعاملات الظاهرة، وهي الولاية؛ فلهم علينا الولاية، أي: أن نواليهم في الله، وفي الدين، والإيمان، (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ))[الحجرات:10]، ( المسلم أخو المسلم )، ( كونوا عباد الله إخواناً ) إلى غير ذلك.
يقول: (وذبائحهم) فإن ذبائحهم تؤكل، وكذلك شهاداتهم، وهذه يدل عليها الحديث الصحيح الذي تقدم مراراً وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس وغيره: ( من صلَى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فهو مسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا )، إذاً: فهذا المقصود بالإيمان: أنه مسلم وليس بكافر، أي: من كان مثلنا في الأحكام الظاهرة فهو منا، ولا نكفره بمجرد فعل ذنب من الذنوب، وإن زنى، وإن سرق، وإن خان الأمانة، وإن كذب في الحديث، وإن عق الوالدين، وإن فعل ما فعل من الكبائر والمحرمات؛ ما لم يرتكب الشرك الأكبر، والكفر المخرج من الملة؛ فهو لا يزال له اسم الإسلام، فإذا قلنا: إنه مؤمن؛ فالمقصود: أنه مسلم، وهذا واضح إن شاء الله مما تقدم.
يقول: (وجميعهم سنتهم إنما هي على الإيمان).
يعني: أنهم في كل أحكامهم ومعاملاتهم على أساس عقد الإسلام، وأنهم مسلمون. قال: (ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعاً واسعين) أي: أن الأوزاعي رحمه الله تعالى وغيره من السلف تنبهوا إلى أن المسألة ليست خلاف تضاد، وإنما هي باعتبار، فكل يخالف الآخر باعتبار، فإذا اتفقا في الاعتبار لم يختلفا، فكان الأوزاعي رحمه الله تعالى يرى ذلك.
وفي الأثر السادس من كتاب الإيمان لأبي عبيد وهو في (ص69) من مجموع الرسائل الأربع؛ قال أبو عبيد: (حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي قال: [ من قال: أنا مؤمن فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن ]).
إذاً: فهذا إمام عظيم لا تخفى جلالته وفضله وقدره في الأمة، وقد جمع بين أقوال السلف في هذا.