السلف القائلون بالاستثناء في الإيمان وأدلتهم
ثم جاء الإمام الطبري رحمه الله (193) ليعدد لنا الأئمة والعلماء المخالفين تحت الأثر رقم (1513)، فقال: (حدثني أحمد بن أبي شريح الرازي قال: سألت أبا سلمة الغزالي فقلت: [ يا أبا سلمة! إذا سئلت أمؤمن أنت ما تقول؟ قال: أقول: مؤمن إن شاء الله، قلت: من أدركت ممن يستثني؟ قال: الناس إلا من قلّ، قلت: سمهم لي، قال: شريك ، و أبو بكر بن عياش ، و حماد بن زيد، والناس إلا من لا يعبأ به ]).ثم ذكر أقواماً بأسانيده، وقال: (فهؤلاء الذين حضرنا ذكرهم ممن روي عنه إنكار القول) ثم أخذ يرجح.والمقصود هنا: أن أبا سلمة الغزالي نقل عن هؤلاء الذين سموا أنهم يستثنون، ويطلق القول أيضاً أن هناك أناساً كثيرين يستثنون، فيحتمل أنهم ممن أيضاً نقل عنه تركه، فقد ذكرنا أن السلف لهم اعتباران، فيحتمل هذا ويحتمل هذا، فلا تعارض بين قول من استثنى من السلف، وبين من رأى عدم الاستثناء، كما سيتضح ذلك عندما سنجمع بين الأقوال إن شاء الله؛ لأنهم لم يكن فيهم من يوجب أو يمنع بغير اعتبار، أو من يمنع مطلقاً، فما دام الأمر مجرد ورود الاستثناء أو عدم الاستثناء فيحتمل أنه يستثني مرة باعتبار، ولا يستثني مرة باعتبار، أو ينهى على سبيل الكراهية، أو يأمر على سبيل الاستحباب. والطبري رحمه الله يرجح القول بالاستثناء؛ فبعد أن ذكر الأقوال والأخبار قال: أما الدلالة على أن قول القائلين بما ذكرت من إنكارهم قول القائل: (إني مؤمن بغير وصل باستثناء، ولا تقيد بشرط؛ أولى بالصواب من قول من خالفهم في ذلك.. إلخ)، وقد قلت: إن القول إذا تنازع فيه العلماء كان أولى ذلك بالصواب ما قامت حجته، وثبتت في العقول صحته؛ قيل: أما الدلالة على صحة قولهم من كتاب الله تعالى ذكره: فقوله تبارك وتعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ))[الأنفال:2-4] فأخبر جل ثناؤه أن المؤمن هو من كانت هذه الصفة صفته دون من قال ولم يعمل؛ ولكنه ضيع ما أمر به وفرط.فهو يقول: إن المؤمن المذكور هنا هو المؤمن الحقيقي؛ فلذلك لا بد أن يستثني؛ لأنه لا يضمن أن يكون مؤمناً حقيقياً، أو مؤمناً كامل الإيمان. ثم ذكر أثراً عظيماً لا بأس أن نعيده، وقد ذكرناه في جملة كلام الإمام أحمد الذي تقدم في أول كتاب الإيمان ، فذكر بسنده إلى إبراهيم بن الأشعث قال: (سمعت الفضيل بن عياض يقول: يا سفيه ما أجهلك! ألا ترضى أن تقول: أنا مؤمن؛ حتى تقول: أنا مستكمل الإيمان، لا والله! لا يستكمل العبد الإيمان حتى يؤدي ما افترض الله عليه، ويجتنب ما حرم الله عليه، ويرضى بما قسم الله له، ثم يخاف مع ذلك ألا يتقبل منه.إذاً: فـالفضيل بن عياض رحمه الله تعالى هو أيضاً ممن يرى الاستثناء، وهذه حجته، وقد تقدم شرحها، ونفهم من كلامه أنه للإرشاد، ولا يرى الإيجاب؛ لأنه يمكن أن يقول الإنسان: أنا مؤمن ولا يقصد استكمال الإيمان. ثم ذكر الإمام الطبري دليلاً لهؤلاء، وهو من أقوى الأدلة فيما رأيت، وقد تنبه له الإمام الطبري رحمه الله، وهو حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه المتقدم، وقد رواه هو بسنده، ولفظه يختلف عن ما في البخاري ، قال سعد : ( قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسمة فأعطى رجلاً ولم يعط آخر، فقيل: يا رسول الله! أعطيت فلاناً وهو مؤمن، وتركت فلاناً وهو مؤمن، فقال: إني لأعطي أقواماً وأدع أقواماً؛ مخافة أن يكبهم الله على وجوههم في النار ) ورقمه عنده في (2/195/1520)، وأما أثر عياض (1512 ص: 193)، وأما لفظ البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أو مسلماً )، فكلما كرر سعد : ( إني أراه مؤمناً، قال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً ).فنفهم من هذا الدليل أنه يصح الاستدلال به لمن يرى الاستثناء، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يرشد سعداً ألا يجزم، فلو قال سعد رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله! إني لأراه مؤمناً إن شاء الله) فربما لم يعب عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.