ثم ذكر شيخ الإسلام رواية مهمة جداً عن الإمام أحمد رحمه الله، يقول: (قال إسماعيل بن سعيد : سألت أحمد عن الإسلام والإيمان، فقال: الإيمان: قول وعمل، والإسلام: الإقرار.
وقال: وسألت أحمد عمن قال في الذي قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم حين سأله عن الإسلام فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ فقال: نعم، فقال قائل: وإن لم يفعل الذي قاله جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم فهو مسلم أيضاً؟ فقال: هذا معاند للحديث).
وحديث جبريل المعروف له عدة روايات صحيحة، فيقول فيها جبريل عليه السلام بعد أن سأله: ( يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ).
إلى أن قال: ( فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم، ثم قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر ) إلى أن قال: ( فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: نعم ).
ويعني الإمام أحمد: لو أن أحداً لم يفعل هذا الأمور، ويقول: أنا مقر ومصدق بالإسلام؛ فإنه يكون معانداً للحديث؛ لأن الحديث قال: ( فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم ) أي: أنه لو لم يفعل ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول له: نعم.
(وقال الحسن بن علي: سألت أحمد بن حنبل عن الإيمان: الإيمان أوكد أو الإسلام؟
قال: جاء حديث عمر هذا -يعني: حديث جبريل عليه السلام-، وحديث سعد أحب إلي) لأنه أكثر إيضاحاً في الفرق بينهما، فالنبي صلى الله عليه وسلم ينبه سعداً ويقول له: اعدل عن هذا القول إلى ذاك، أي: لا تقل: مؤمناً، وإنما قل: مسلماً، فهو أحب إليه من جهة أنه أوضح في الدلالة على أن الإيمان أوكد، فهو الأهم والمرتبة الأعلى.
وكأنه فهم أن حديث عمر يدل على أن الأعمال هي مسمى الإسلام، فيكون مسماه أفضل، وحديث سعد يدل على أن مسمى الإيمان أفضل، ولكن حديث عمر لم يذكر الإسلام إلا بالأعمال الظاهرة فقط، وهذه لا تكون إيماناً إلا مع الإيمان الذي في القلب بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، أي بتحقيق الإيمان الذي هو حديث جبريل.
قال: فيكون مسمى الإيمان أفضل كما دل عليه حديث سعد ، فلا منافاة بين الحديثين.
قال: (وأما تفريق أحمد بين الإسلام والإيمان فكان يقوله تارة، وتارة يحكي الخلاف ولا يجزم به، وكان إذا قرن بينهما تارة يقول: الإسلام: الكلمة، وتارة لا يقول ذلك، وكذلك التكفير بترك المباني).
والمقصود بالمباني: الأركان الأربعة وليس الخمسة؛ لأن من ترك الشهادة فهو كافر بالإجماع، وهذا قبل أن يشذ المرجئة ، فبعض المرجئة يقولون: لا يكون كافراً إذا عرف بقلبه، والصحيح: أنه لا يكون مؤمناً لا في الدنيا ولا في الآخرة، لا في الظاهر ولا في الباطن إذا لم يشهد: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(قال الميموني: قلت: يا أبا عبد الله ! تفرق بين الإسلام والإيمان؟ قال: نعم. قلت: بأي شيء تحتج؟ قال: عامة الأحاديث تدل على هذا، ثم قال: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ) ).
إذاً: فالإمام أحمد يريد أن يقول: إن السارق والزاني ومرتكب الكبيرة لا يفعل ذلك وهو مؤمن، لكنه يظل مسلماً، فهو يفرق بين الإسلام وبين الإيمان.
ثم قال رحمه الله: (وقال الله تعالى: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ))[الحجرات:14]).
فهنا صرح الإمام أحمد بالتفريق، واستدل بالآية.
قال: (و حماد بن زيد يفرق بين الإسلام والإيمان).
وهذا 4من دقة الإمام أحمد رحمه الله، وحرصه على ألا ينسب له قول، وورعه في ذلك، فهو مرة يقول بالفرق، ومرة يحكي الخلاف ولا يجزم، ومرة يقول: قال الزهري : الإسلام: الكلمة، والإيمان العمل، ومرة يقول: كان حماد بن زيد لا يفرق، فهو رحمه الله يتورع أن يخطِّئ أحداً من السلف، فهذا من ورع العلماء.
وقد جمع الإمام أحمد رحمه الله من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن علم الصحابة والتابعين ومن بعدهم؛ في المنقول، وفي المعقول أيضاً، وفي الآراء والاستنباط ما لم يتوفر لأحد في عصره -رحمه الله- بإجماع الأمة، فلم يكن أحد في عهد الإمام أحمد رحمه الله أعلم منه، وقد اجتمعت لديه المزايا والفضائل العظيمة في طلب العلم، وفي الفقه والاستنباط، فقد ورث علم مالك ، وورث علم الشافعي رضي الله تعالى عنهما، واستطاع أن يفصل وأن يميز بين مذهب أهل العراق ومذهب أهل المدينة ، وفصل هذا على هذا بأصول، وأخذ من الشافعي رحمه الله تعالى الأصول والدقة في النظر، وفي الاستدلال، والفهم اللغوي الصحيح، كما أخذ أيضاً الحديث بالأسانيد العالية، وهو جبل في هذا الشأن لا يشق له غبار، ومع ذلك كله نراه عندما يذكر عالماً إماماً كـحماد بن زيد لا يستطيع أن يجزم بأنه أخطأ، وإنما يقول: زعموا، ومرة يقول: حماد بن زيد يفرق بين الإسلام والإيمان.