الشبهة المتعلقة بالراوي من جهة ضبطه والرد عليها
قال النسفي : إن الراوي قال: بضع وستون، أو بضع وسبعون شعبة، وفي بعض الروايات: باباً، والباب أو الشعبة بمعنى واحد، فقال: إن الراوي تردد، فقد شهد الراوي بغفلة نفسه حيث شك، فقال: بضع وستون، أو بضع وسبعون. ولا يظن برسول الله الشك. ولا شك أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقل: (أو)، أي: لم يقل: بضع وستون أو بضع وسبعون، وإنما قال إحدى العبارتين، والشك لا شك أنه وقع من الراوي، والراوي يحتمل أن يكون الصحابي فمن دونه في السند، فيقول: إن هذا الراوي الذي شك قد شهد على نفسه بالغفلة، وأنه لم يحفظ، وعلى هذا يرد الحديث، وهذا إجحاف، إذ لو أن كل راو شك رد حديثه كله لكان في هذا هضماً لجملة عظيمة من أحاديث رسول الله، وكذلك في واقع الناس، فإن الشك إنما يقوله أو يظهره الثقة الثبت المتقن أمانة منه وتورعاً، وإلا فإن غير ذلك يجزم بما يغلب على ظنه، فالذي يذكر الشك لا يقتضي ذلك بالضرورة أنه إنما ذكره لأنه لم يضبط، أو لم يتقن فهو غير ثقة، وغير ضابط، وعدم الضبط قدح في قبول الحديث من الراوي، لكن إذا جاء الشك من الثقة الثبت العدل المعروف بضبطه وإتقانه فإنما هو زيادة في الطمأنينة، أي: أن نطمئن أن هذا الذي يروي المئات أو الألوف من الأحاديث من غير شك إذا قال مرة في حديث: (أو) علمنا بهذا القول أمانته، وورعه فيما يقول، وهذا أمر.الأمر الآخر -كما قال الشيخ أو كما أشار-: أن الشك لا يؤثر مطلقاً؛ لأننا نجزم بأن رسول الله قال إحدى العبارتين، على أنه لم ترد إلا رواية الشك من غير ترجيح، فنقول: إن كان النبي عليه الصلاة والسلام قال: إن الإيمان بضع وستون، أو إن الإيمان بضع وسبعون، فالاستدلال واحد، وأهل السنة والجماعة لم يقولوا: إن مذهبنا واعتقادنا أنه بضع وستون، ومن قال: إنه بضع وسبعون فقد ابتدع، أو العكس، إنما هم يستدلون على أن الإيمان شعب، وعدد الشعب غير مؤثر؛ لأنكم معشر الحنفية تقولون: إنه لا يزيد ولا ينقص، بمعنى: أنه شعبة واحدة، فنحن إذا أثبتنا ولو شعبتين أو ثلاثاً فقد انتفى مذهبكم وثبت بطلانه، فلا يهم العد أياً كان العدد، والمقصود أنه يحسن بثبوت أي اللفظين، ونحن نجزم أنه قال عليه الصلاة والسلام، إحداهما فلا يؤثر هذا في الاستدلال.الأمر الثالث: أن هذا الحديث -كما ذكر الشيخ رحمه الله- قد رواه البخاري رحمه الله: بضع وستون، من غير شك، وإنما الشك في رواية الإمام مسلم وابن ماجه وغيرهما، ولو أن مرجحاً رجح وقال: لا شك أن صحيح البخاري أصح من صحيح مسلم ، وهو شيخ الإمام مسلم ، وأعلم منه بالروايات وبالطرق، وقد روى رواية واحدة مجزوماً بها لا شك فيها، وعليه فما في صحيح البخاري هو الراجح، لكان ذلك الوجه حسناً ومقبولاً عند العلماء العالمين بهذا الفن وبهذا الشأن، ولا ريب أنه لو روى راويان، وشك أحدهما، فإنه من المعقول أن يقدم الذي لم يشك على الذي شك، ولا يؤثر ذلك في صحة الحديث، فالحديث صحيح ونجزم برواية الذي لم يشك، وأما الذي شك فنعلم أنه بشر يعتريه النسيان، وربما عرض له عارض، ولكن ذلك لا يطعن في صحة الحديث في ذاته.إذاً: لا غبار على هذا الحديث إطلاقاً، وهذا قول متهافت مردود، ولا يحمل مثل هذا الرد أو لا يحمل أصحابه عليه إلا التعصب كما ذكر الشيخ في آخر كلامه، وإلا لو أن هذا الحديث أو مثل هذا الشك جاء في موضوع يستدل به الحنفية أو غيرهم لا خلاف فيه لما طعن النسفي وغيره في الحديث بمجرد ما يرى من هذا الشك.