النقل السادس: عن الإمام الحافظ
أبي عمر بن عبد البر رحمه الله، وهو الإمام المشهور في غرب العالم الإسلامي وهو صاحب كتاب
التمهيد ، وهو سفر عظيم جليل مشهور. قال الحافظ
ابن عبد البر في
التمهيد في الجزء التاسع من الطبعة المغربية: (أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل). يريد أن يخرج أهل الكلام ولا يعتد بإجماعهم، ولذلك إذا وجدنا الإجماع عن أهل الفقه والحديث وشيوخهم وأوائلهم من الصحابة؛ فلا اعتداد بأقوال أهل الكلام، ولا بأهل الرأي إذا خالفوا هؤلاء. قال: (ولا عمل إلا بنية) وبعض هذه الزيادات تقال للاحتراز؛ لأنه يخشى أن يفهم بعض الناس أن إجماع الصحابة ومن بعدهم على أن الدين قول وعمل معناه أن القول هو التلفظ باللسان، والعمل هو العمل بالجوارح فحسب، فيقول قائل: فأين ما في القلب من النية أو من الإخلاص أو من العقيدة؟!فلذا قال بعضهم: (وعقيدة)، وقال بعضهم: (ونية)، ولكننا على التفسير الذي سنذكره تفصيلاً، وهو أن العمل يشمل عمل القلب وعمل الجوارح، فالنية من عمل القلب، وكذلك الإخلاص، والنية هي الإخلاص، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (
إنما الأعمال بالنيات )، ولما جعل
البخاري أول حديث في
الصحيح حديث
عمر : (
إنما الأعمال بالنيات ) أراد التنبيه على الإخلاص، فعلى الإنسان وطالب العلم خاصة أن يبتدئ أي عمل من الأعمال بالإخلاص لله. فالنية المقصود بها إخلاصها؛ إذ
لا يمكن لأحد أن يؤمن ونيته ليست خالصة لله تعالى، فإذا قال: (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) غير مخلص في هذه النية؛ فإنه يكون من المنافقين والعياذ بالله، نعم الإخلاص يتفاوت، لكن لا بد منه؛ ولهذا يقول هنا: (ولا عمل إلا بنية) حتى لا يفهم العمل مجرداً عنها، وإلا فذلك غير وارد عندما قال الصحابة ومن بعدهم: الإيمان قول وعمل، فهم لا يعنون بذلك مجرد عمل الجوارح، وإنما يعنون عمل القلب كله مع عمل الجوارح. قال: (والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان). وهذا ما فصله
البخاري تفصيلاً عظيماً في كتاب الإيمان في
الصحيح من خلال تراجمه؛ فإنه ترجم تراجم عديدة نوصي بقراءتها لنعلم أن الأعمال التي جاءت في أحاديث كثيرة من الإيمان، كصيام رمضان وقيامه، وقيام ليلة القدر، وأداء الزكاة، والصوم، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، وأن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، إلى غير ذلك من الأمور التي جاء أنها بذاتها إيمان، وهي أجزاء من الإيمان، فالصلاة إيمان، والزكاة إيمان، والحج إيمان، كما في حديث وفد عبد القيس الذين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (
أتدرون ما الإيمان؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا الخمس من المغنم ).فكل الأعمال إيمان، ولذا نجد في الأحاديث: (
من صام رمضان إيماناً واحتساباً )، (
من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً )، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفعل كذا، أو فلا يفعل كذا، وكلها على كثرتها تدل على أن هذه الأعمال في ذاتها إيمان وبمجموعها يكون الإيمان، ولهذا يزيد وينقص بمقدارها. وحديث الشُعب الذي تقدم يدل على ذلك دلالة واضحة؛ لأن الإيمان إذا كان بهذه المثابة ويجمع هذه الشُعب، فإن الناس يتفاوتون في فعلها، فمنهم من يأتي بمجموعة ويترك بعض الشعب، ومنهم من يأتي بمجموعة ولكنه لا يأتي بها على وجه الكمال، فهي في ذاتها متفاوتة، وفي مجموعها يتفاوت الناس بحسب الإكثار أو الإقلال منها، ومن هنا كان لا بد من أن يتفاوت الناس في الإيمان مع كون كل عمل من أعمال الإيمان يسمى إيماناً، وكل طاعة من الطاعات تسمى إيماناً، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وتسمى إيماناً، وهي أصل الإيمان وأعظم شيء فيه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وهذه إيمان، والحياء شعبة من الإيمان فهو يسمى إيماناً. ولا يخفى على أحد ما في هذا الحديث العظيم من الدلالة الجلية على صحة عقيدة
أهل السنة والجماعة في أبواب الإيمان، وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، فبيانه صلى الله عليه وسلم هو أعظم البيان وأجلاه، ولهذا قال: (
الإيمان بضع وستون شعبة )، أو: (
بضع وسبعون شعبة ) على اختلاف الروايات في
الصحيحين ، ثم قال بعد أن بين هذا المجموع: (
فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق )، فذكر أعلى الشعب وأدنى الشعب، ثم ذكر شعبة ثالثة فقال: (
والحياء شعبة من شعب الإيمان ). وبعيداً عن التعقيدات علمنا صلى الله عليه وسلم أن نستنبط من هذا الحديث أن أعمال الإيمان منها ما هو أركان ومنها ما هو واجبات ومنها ما هو مستحبات، والأركان أعظمها شهادة أن لا إله إلا الله، فضرب المثل بأعظم الأركان لأعلى الواجبات، ثم ضرب مثلاً لأدنى الشعب بإماطة الأذى عن الطريق، وهي أدنى المستحبات، وقد يميط الإنسان الأذى وهو عابر لا يدري أنه أماطه ولم يفكر في ذلك ولم يحتسب الأجر لدنو درجته في الإيمان، مع أن ذلك من كمال الإيمان، وأما ترك الركن فكفر يخرج من الملة، فإذا ترك أحد الشهادة التي هي أعظم الأركان أو ترك الصلاة، فليس بمسلم، ولا يكون له حكم المسلمين في الدنيا، ولا يكون من أهل الجنة في الآخرة؛ لأنه لم يأت بالشهادة، وأما ترك المستحب فلا يؤثر في الإيمان، ولا ريب في أن من تركه ينقص كمال إيمانه بحسبه، فليس من أماط الأذى كمن لم يمطه. ثم قال: (
والحياء شعبة من الإيمان ) فنبه هنا على الواجب، وأتى بواجب قلبي؛ لأن الأصل هو أعمال القلوب، وذكر أعظم هذه الأمثلة وهو الحياء، و(
الحياء خير كله)، و(
الحياء لا يأتي إلا بخير) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فأصل جميع أعمال الخير من فعل المأمور أو ترك المحظور يرجع إلى الحياء، فمن استحى من الله أتى بالمأمورات وترك المحظورات. فهذا الحديث على وجازة ألفاظه وقلتها جمع هذه الأصول العظيمة، ولو أن أي مذهب غير مذهب
أهل السنة والجماعة أراد أن يستفيد من هذا الحديث لما استطاع، بل لتناقض مذهبه مع هذا الحديث، إلا المذهب الحق، وهو ما عليه
أهل السنة والجماعة والحمد لله.