ما نقله الإمام البغوي من الاتفاق على دخول الأعمال في الإيمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:فكنا قد شرعنا في موضوع الإيمان، وتحدثنا عن إجماع السلف الصالح على حقيقة الإيمان، وذكرنا أربع نقولات عن الأئمة في حكاية الإجماع، وهنا نشرع في ذكر النقل الخامس عن الإمام البغوي رحمه الله تعالى. يقول الإمام البغوي: (اتفقت الصحابة فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان، لقوله سبحانه وتعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ))[الأنفال:2] إلى قوله تعالى: (( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ))[البقرة:3]، فجعل الأعمال كلها إيماناً، وكما نطق به حديث أبي هريرة)، يعني: حديث: ( الإيمان بضع وسبعون شعبة ). ثم قال: (وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة). وسنتحدث -إن شاء الله تعالى- عن هذه الزيادات، مثل عقيدة، واعتقاد، ونية، وسنوضح لماذا زاد ذلك، وهل هذه الزيادة فيها استدراك أم أنها مجرد بيان وإيضاح. قال: (وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية على ما نطق به القرآن في الزيادة).أما زيادة الإيمان فقد جاءت في القرآن، كقوله تعالى: (( لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ))[الفتح:4] في آيات كثيرة. قال: (وجاء في الحديث بالنقصان)؛ لأن هناك من شكك فقال: ما الدليل على وجود النقصان مع وجود الدليل على الزيادة؟! فقال بعضهم: ما قبل الزيادة فهو قابل للنقصان. وقال آخرون: بل ورد دليل النقص في قوله صلى الله عليه وسلم: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل ) ومعناه أن الإيمان ينقص في هذه الحال حتى لا يكاد يكون شيئاً، وإذا كان يتخيل في حبة خردل فهو يتصور فيما هو فوقها. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن ) والدين هو الإيمان، ولهذا قال الإمام البغوي: (وجاء في الحديث بالنقصان في وصف النساء)، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فسره بقوله: ( أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟! قلن: بلى. قال: فذلك نقصان دينها )، فالصلاة التي سماها الله في القرآن إيماناً في قوله تعالى: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ))[البقرة:143] أي: صلاتكم، سماها النبي صلى الله عليه وسلم هنا أيضاً ديناً، وجعل نقصها نقصاً في الدين، فلو أن رجلاً عاش أربعين سنة يصلي وامرأته عاشت أربعين سنة تصلي فالرجل أكثر أجراً من المرأة؛ لأنه لا بد لها من أن تدع الصلاة في أيام الحيض وفي أيام النفاس. ثم قال: (واتفقوا على تفاضل أهل الإيمان في الإيمان وتباينهم في درجاته)، فهذه قضية مجمع عليها بينهم، فما كان أحد يجرؤ على أن يقول: إن إيمانه كإيمان أبي بكر وعمر ، ولا أحد يقول: إيماني كإيمان جبريل، كما نقل ذلك عن المرجئة ، وإنما كان الصحابة الكرام يعلمون أن تفاضلهم فيما بينهم وتفاضل الناس جميعاً إنما هو في الإيمان، فكانوا مجمعين على تفاضل أهل الإيمان في الإيمان، وتفاضل أهل الإيمان في الإيمان يكون في الإيمان كله ويكون في الشعبة الواحدة من شعبه، كما كان الخلفاء الراشدون أكثر إيماناً من بقية العشرة، ثم بقية العشرة أكثر وأفضل إيماناً وأكمل من أهل بدر ، ثم أهل بدر أفضل من غيرهم من الصحابة، ومن جاهد وأنفق من قبل الفتح أفضل ممن جاهد وأنفق بعده. وهناك تفاوت يكون في شعبة من شعب الإيمان، وهذا دليل على تأكد التفاوت، كالصلاة مثلاً، فليس كل مصلى صلّى كأي مصل آخر، فقد يقف رجلان أو أكثر في صف واحد في صلاة واحدة، لكن بين هذا وذاك مثل ما بين السماء والأرض، فهذا التفاوت في العبادة الواحدة، وآخر قد يقرأ القرآن وغيره مثله، لكن بين هذا وهذا من التفاوت الشيء العظيم، وهكذا. فالناس يتفاوتون، والمرجع في ذلك إلى اليقين والإخلاص وسائر أعمال القلوب من الخشوع والخضوع والرهبة والرغبة والإنابة، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في حديث المرأة البغي التي نزلت البئر فسقت الكلب، فليس كل متصدق ينال من المغفرة والدرجة مثل هذه المرأة، وذلك لأنها فعلت ذلك عن تواضع وصدق وإخلاص وبعد عن الرياء، أما غيرها فقد يفعل مثل ذلك أو أعظم، فيتصدق، ويكون عبداً صالحاً مؤمناً، ومع ذلك لا ينال مثل ما نالت، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( سبق درهم ألف درهم )، والمقصود النية والإخلاص، وليس مجرد الكثرة؛ فإن الألف -بلا ريب- أكثر من الواحد، لكن صاحب الدرهم تصدق وهو صحيح شحيح يرجو الغنى ويخشى الفقر، ولا يجد إلا ذلك الدرهم فاضلاً عن قوت أهله، وربما لا يكون له سواه لقوته، والآخر قد لا يكون كذلك.