المادة    
إذاً: أهل السنة قد يخطئون ويقع منهم مخالفات وتجاوزات واجتهادات، سواء طائفة منهم أو أفراداً، لكن لا يخرجهم ذلك عن دائرة السنة والجماعة، ولا عن دائرة اتباع السلف، ولا يجعلهم يرمون ويقذفون بما لا يليق بهم، إذ لا يصح ولا يجوز أن يكون البغي أو الظلم أو الخطأ سبباً لبغي أو ظلم من الطرف الآخر؛ لأنه إذا عولج البغي ببغي أكبر منه، والظلم بظلم أكبر منه، فسدت الأحوال وتفرقت الأمة، أما إذا عولج الظلم بالعدل والإنصاف والنصح للجميع؛ فإن الأمة تجتمع بإذن الله، ويعلم من كان في قلبه خير وهدىً وحق، أن هذا الذي وزن الأمور بالميزان الحق والعدل، أنه حقاً قد أنصفه وأنصف منه فيقبل منه، وهذه تندرج تحت أصل عظيم من أصول الدعوة يغفل عنه الكثير، ألا وهو العدل في المعاملة وحسن الخلق، وهذا أحد أسباب إسلام كثير من الأمم الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا أصحابه ورأوا أخلاقهم، فمثلاً أهل الشام وأهل العراق وغيرهم ممن فتحت بلادهم ودخلها الصحابة الكرام وأسلموا جميعاً، هل أن كلاً منهم ناظر أو حاج الصحابة، أو سمع الأدلة والبراهين ثم آمن؟! إن هذا عملياً غير صحيح وغير واقع؛ لأن الذي يناظر أو يجادل أو يفكر إنما هم أصحاب الفكر والعلم من أهل هذه الأديان، لكن عامة الناس إنما ينظرون إلى الأخلاق والمعاملة فقط، وسيرة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم تشهد لهم أنهم أتباع نبي لا أتباع دجال أو ظالم أو فاجر، ومن يسمع عن أخلاقهم يؤمن ويفتح لهم مدينته، ومن يرى أخلاقهم يتعجب، وهذا أقوى من مجرد الاقتناع العقلي، إذ إن الاقتناع العقلي قد لا يؤدي إلى العمل الإيجابي، وكثير الآن من المستشرقين والمفكرين من أعداء الإسلام مقتنعون عقلياً أن الإسلام حق، وأن الدين حق، لكنهم لم يؤمنوا ويذعنوا، أما الاقتناع النفسي فإنه لا يستطيع الإنسان أن يوقفه أبداً، بل قد نطق به رستم لما جاءه بعض الأعراب يشكون إليه ما فعل جنده قبل معركة القادسية ، والفرس إنما جاءوا ليصدوا جيش الإسلام حتى لا يحتل هذه المنطقة، فـرستم بعقله ودهائه قال لهؤلاء: أو قد فعل بكم العرب مثل ذلك؟ وكأنه يريد أن يسمع أركان جيشه، فقالوا: والله ما اعتدوا على أحدٍ قط، ولا نهبوا مالاً قط، ولا فعلوا شيئاً من ذلك؛ لأنه مستحيل أن يفعل المسلمون مثل ذلك، فهم إنما جاءوا ليقاتلوا في سبيل الله، وما زال الأمر في مفاوضات ومداولات، وهؤلاء ليسوا ممن يحارب، ثم قال: ينصرون بعدلهم وتهزمون بظلمكم وبغيكم. إذاً: فالعدل مركب في كل النفوس، ولهذا مهما كثرت الجرائم والدمار والقتل؛ فإنه لا بد أن يظهر القادة والزعماء والكتاب والمفكرون والإعلاميون بأنهم يريدون الحق والعدل والإنصاف وحقوق الإنسان إلى آخر ما يريدون، حتى كبار المجرمين لا بد أن يقولوا ويعلنوا ذلك؛ لأن قلوب العالم كلها مفطورة على محبة من يعدل وبغض وكراهية من يظلم، وأكثر المسلمين اليوم ما فتنوا بالحضارات الغربية من أجل الدبابات والصناعات، وإنما افتتنوا بأن لديها عدلاً وأخلاقاً وصدقاً ووفاءً بالوعد، وعدم غش وحسد وكذب إلى آخر ما هو متداول بين العامة الجهلة من المسلمين، ونحن من العدل ألا ننكرها جميعاً، لكن ليست كما يصفون ويظنون، إذ إن معها أضعاف أضعافها من الشرور والبلايا والطوام، فيرون هذه الأخلاق فيقولون: هذا الغرب، ولهذا لو قلت في مجلس خبرين: فالأول: أنه في أمريكا ضرب شخص ثم أمسكوا بهذا المضروب وسجنوه وتركوا الضارب! فأكثر الناس لا يصدق، بل قد يقول: غير معقول أن يحدث هذا في أمريكا ، لا بد أن يكون لهم مدافع، لا بد أن يكون لهم كذا؛ لأنه في ذهن الناس منتشر أن هناك عدلاً ونظاماً، لكن لو قلت: قد حدث ذلك في مدينة عربية، فإنه قد يقول البعض: ممكن أن يكون صحيحاً ولا يستغربوا؛ لأن المشهور المستفيض عند الناس أن الظلم يمكن أن يقع بين هؤلاء ومنهم، لكن لا يمكن أن يقع بين أولئك، إن هذا الأساس الأخلاقي هو الذي جعل الأمة تتدمر في التعامل وفي نظرتها إلى الغرب، فكانت هذه النتيجة التي لا بد أن تقع؛ لأن ما فطر الله تبارك وتعالى عليه النفوس من محبة العدل وكراهية الظلم أمر مجمع عليه، وهو يحرك كل القلوب وكل الفطر، ومهما كان الإنسان باغياً أو فاجراً فإنه يحترم العادل المنصف ويكره الظالم، ولذلك لما جاء الرجل يشتكي إلى هشام بن عبد الملك فقال: كان لي أرض أقطعنيها أبوك عبد الملك ، وأقرني عليها أخوك الوليد ، ثم أقرني عليها أخوك سليمان ، ثم نزعها مني عمر رحمه الله، فقال: أعد ما تقول، فأعاد عليه ما قال، وكل واحد باسمه مجرداً، وإذا ذكر عمر قال: رحمه الله، فكان الذي أخذ الأرض منه قال فيه: رحمه الله، والذي أعطاه الأرض لا يرحم عليه؛ لأن النفوس في أعماقها مفطورة على العدل ومحبة أهل العدل وأهل الخير وأهل الإنصاف، حتى وإن كان في الظاهر أساء أو أخطأ.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.