المادة    
فالتصديق في لغة العرب -كما هو في الكتاب والسنة، وهما الأساس- ليس مجرد اعتقاد صدق المتكلم، أي: أن ننسبه إلى الصدق، بل يطلق على العمل أيضاً، وعلى التنفيذ وعلى تحقيق الشيء وامتثاله، والدليل على ذلك قول الله تعالى: (( وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ))[الصافات:104-105] أي: نفذتها وامتثلتها وعملت بها.
فعندما نقول: فلان صدق الدين؛ فالمعنى أنه عمل به.
فالله تبارك وتعالى أمر إبراهيم عليه السلام أن يذبح ابنه، ورؤيا الأنبياء حق، فأخذ إبراهيم عليه السلام ابنه وقال له: (( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى ))[الصافات:102]، فالمسألة عمل وتنفيذ، لا أنه صدق بها بمعنى: آمن بأنها رؤيا حق، إنما امتثلها فقال ذلك لابنه، ووافق ابنه على الذبح فقال: (( يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ))[الصافات:102].
فقوله تعالى: (( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ))[الصافات:105] معناه: حققتها وحولتها إلى واقع، وهذه حقيقة التصديق، فمفهوم التصديق أيضاً هو العمل والتحقيق والإنفاذ، والمقصود من هذا العمل الذي أراده الله من إبراهيم هو أن يمتثل أمر الله لا أن يذبح ابنه، فلو أراد الله حقيقة الذبح لفعل، وإنما أراد حقيقة الامتثال، وكذلك قول الله تعالى: (( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ))[الزمر:32-33] والذي جاء بالصدق هو محمد صلى الله عليه وسلم، والصدق هو الدين والإيمان كله، ومعنى: (وصدق به) أي: اعتقده وعمل به، وأخذه ظاهراً وباطناً قولاً وعملاً، ولهذا قال مجاهد : الصدق هو القرآن، والذي صدق به المؤمنون.
قال ابن كثير رحمه الله: (وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين؛ فإن المؤمن يقول الحق ويعمل به)، فالمؤمن مصدق؛ لأنه يقول الحق، ويعمل به، ولهذا لما بين الله حال المنافقين حذر المؤمنين من حالهم، فقال: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ))[التوبة:119] ليخرج بذلك المنافقون الذين ذكرهم في السورة التي تتحدث كلها عن المنافقين الذين يدعون الإيمان كذباً، فأرشد الله عباده المؤمنين وخاطبهم بقوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ))[التوبة:119]، أي: لا تكونوا كأولئك الذين لم يصدقوا ولم يخلصوا دينهم لله وهم المنافقون.
وكذلك قوله تبارك وتعالى: (( إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ))[الذاريات:5] أي: واقع متحقق لا محالة، فالصدق أيضاً يأتي بمعنى التحقق والوقوع وكذلك قول الله تبارك وتعالى: (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ))[البقرة:177] إلى أن قال تعالى: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ))[البقرة:177]، فهذه الآية تدل على أنهم صدقوا بأن قالوا وعملوا، فكانوا بذلك صادقين ومصدقين، كما قال الربيع بن أنس رضي الله تعالى عنه: [أولئك الذين صدقوا فتكلموا بكلام الإيمان فكانت حقيقة العمل، صدقوا الله]. ففهم السلف لا يتناقض أبداً.
وكان الحسن يقول: [هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل، فإن لم يكن مع القول عمل فلا شيء]. فهؤلاء أقروا وعملوا، وأذعنوا والتزموا، وجاءوا بكل ما أمر الله تعالى به من الجهاد والصبر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتقوى الله وسائر الأعمال المطلوبة.
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: (يعني تعالى ذكره بقوله: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ))[البقرة:177] من آمن بالله واليوم الآخر، ونعتهم النعت الذي نعتهم به في هذه الآية، يقول: فمن فعل هذه الأشياء فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم وحققوا قولهم بأفعالهم).
ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله أيضاً في تفسير هذه الآية: (هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فهؤلاء هم الذين صدقوا).
فكل كلام السلف ومن بعدهم على أن الإيمان قول وعمل، والتصديق يكون بالفعل كما يكون بالقول.
وفي السنة: ( إن تصدق الله يصدقك )، وكذلك: ( العينان زناهما النظر، والأذنان زناها الاستماع ) إلى أن قال: ( والفرج يصدق ذلك أو يكذبه )، فإذا عمل الفاحشة -والعياذ بالله- فقد صدق ما قد سبق، وهو ما كان في القلب من أمانٍ أو ما كان في اللسان من ألفاظ، أو ما كان في العين من نظر، أو ما كان في الأذن من استماع.
إذاً فالتصديق قد جاء في كلام الشارع بمعنى الفعل والامتثال، وأما في لغة العرب فنقول: إن كلام العرب كثير فيه إطلاق الصدق على العمل، ومن ذلك قول كثير عزة في عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين، ذلك أن عمر رضي الله تعالى عنه أدنى العلماء وأقصى الشعراء، فعوضه الله تبارك وتعالى، وما ترك أحد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه، فعوضه الله بمدائح من الشعر تفوق كل ما قيل فيمن قبله، فمدحه كثير عزة ومدحه جرير ومدحه شاعر آل البيت الكميت الأسدي ، وكان كثير عزة شيعياً رافضياً، والكميت شاعر آل البيت كان شيعياً، فكل هؤلاء مدحوه، وممن أثنى عليه كثير حين قال له:
وصدقت بالفعل المقال مع الذي            أتيت فأضحى راضياً كل مسلم
أي أن كل من جاء قبلك كان يقول، ولكنه لا يصدق القول بالعمل، أما أنت فقلت وصدقت القول بالعمل، فالتصديق في كلام العرب يأتي بمعنى تحقيق القول وإنفاذه، فإذا قيل: إن الإيمان هو التصديق فالمقصود به أيضاً الامتثال والعمل، فهو يشمل عمل القلب ويشمل القول باللسان، فيقول: الإنسان بلسانه ويكون صادقاً ومصدقاً بقلبه، فإذا قال أحد: ما معنى قول السلف: الدين تصديق وعمل؟ قلنا: أن يعمل عملاً يدخل فيه تصديق القلب وعمله، فهم يقصدون الالتزام القولي المستتبع للعمل، ثم قالوا: (وعمل) ليؤكدوا أن الدين حقيقته قول وعمل.
وبهذا نكون قد عرفنا أن معنى التصديق في كلام السلف يأتي بمعنى العمل، فلا تناقض بين قول من قال: التصديق وقول من قال: قول وعمل.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.