المادة    
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد سبق لنا فيما مضى بيان معنى الإيمان وحقيقته عند السلف، ونقلنا نقولاً في إجماعهم على أن الإيمان قول وعمل، ثم أردفنا بما ذكره الإمامان الفاضلان الفضيل بن عياض ، وهشام بن عمار رحمهما الله تعالى في بيان مستند إجماع السلف من النصوص الدالة على هذا المعنى، وبذلك نكون قد أوضحنا المعنى والحمد لله، وأثبتنا أنه مجمع عليه بالنقول المتواترة المتظافرة، وأوضحنا مستند الإجماع.
وبقي لنا أمران بهما يكتمل مبحث تعريف الإيمان وحقيقته:
الأول منهما: أنه قد يقال لنا: إن بعض السلف خالفوا في العبارة، فلم يقولوا: إن الإيمان قول وعمل، بل قالوا عبارات أخرى فبم يخرج هذه الكلام؟!
الأمر الآخر: ما معنى هذه العبارة (قول وعمل)، وكيف ترد الاعتراضات والاحترازات الواردة عليها؟ ولم اخترتموها وفضلتموها على غيرها من العبارات.
فأما الأمر الأول: فهو ما يتعلق بالألفاظ الأخرى التي جاءت وثبتت عن السلف الصالح رضي الله عنهم، وهم أعلم الناس بالدين، وهم أهل الاتباع وأهل الفهم الثاقب والنظر الصائب، فلا بد من أن ننظر في سبب اختلاف العبارة، وهل هذا الاختلاف يؤثر في الإجماع أو لا يؤثر.
  1. مقاصدهم في تعريف الإيمان ببعض خصاله وشعبه

    فنقول وبالله التوفيق: إن بعض عبارات السلف الصالح وردت في كتب مشهورة معتمدة، مثل كتاب السنة للإمام عبد الله بن أحمد ، ومثل كتاب اللالكائي ، ومثل كتاب الآجري وابن بطة وأمثالهم من الأئمة، واشتملت هذه الكتب على عبارات لبعض السلف تختلف عما سبق إيراده من أن حقيقة الإيمان أنه قول وعمل، وإذا فصلنا بعض ما جاء في هذه العبارات فإننا سنجدها على أنواع:
    النوع الأول: أن يعرف الإيمان ببعض خصاله وشعبه، كما عرف عبد الله بن مسعود الإيمان بما ذكره البخاري عنه تعليقاً، حيث عرف الإيمان ببعض شعبه فقال: [ واليقين الإيمان كله ] لبيان أهمية هذه الشعبة، فليس المقصود أن الإيمان هو اليقين بمعنى أنه لا يدخل في ذلك شيء من أعمال القلب والجوارح، ولكنه يريد التنبيه على أهمية اليقين وأنه أصل العمل الظاهر والباطن، فهو -إذاً- جوهر ولب الإيمان، ولذلك قال عن الصبر: إنه نصف الإيمان؛ لأن أداء الواجب شيء والصبر عليه شيء آخر، ويتضمن ذلك قوله تعالى: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ))[الفاتحة:5]، وفهم السلف دائماً مأخوذ من القرآن ومن السنة، فقوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) هو الواجب والغاية التي خلقنا من أجلها، والعمل الذي يجب أن نعمله، فهذا شطر، والشطر الآخر (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وهذا يدخل فيه الصبر؛ لأننا نصبر على الطاعة مستعينين بالله، كما قال الله تعالى: (( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ))[البقرة:45].
    ثم قال: [ واليقين الإيمان كله ] فمرجع الإيمان كله إلى اليقين، فهو معقده وجوهره، فلا تعارض بين هذه العبارة وبين أن الدين قول وعمل.
    وأما من قال من العلماء: إن الإيمان هو الصبر والشكر فقوله لا ينافي ذلك أيضاً؛ لأن حال المؤمن في هذه الدنيا لا يخلو من أمرين: إما نعماء وإما ضراء، فإما أن يحصل ما يفرحه ويريحه ويسره، وإما أن يحصل ما يؤذيه ويؤلمه، فحاله دائماً بين هذين الأمرين، فالواجب عليه فيما يفرح ويسر هو الشكر، والواجب عليه في الآخر -وهو ما يؤلم ويؤذي- هو الصبر، فكأنك إذا قلت: إن الإيمان هو الصبر والشكر تكون قد أدخلت الأعمال في الإيمان، أعمال القلوب وأعمال الجوارح؛ فإن فعلت الحسنات وسرتك فاحمد الله واشكره، وإن ابتليت بفتنة فلم تستطع أن تؤدي الفريضة والطاعة إلا بمجاهدة ومكابدة فاصبر واحتسب ذلك، وإن ابتليت بمصيبة في دنياك فعليك أن تصبر وتحتسب.
    فإذا شكر العبد على النعماء وصبر في الضراء فقد حقق الإيمان بإذن الله تعالى، وهذا هو مقصودهم من قولهم: الإيمان هو الصبر والشكر، فهم لم يقصدوا حقيقة التعريف الاصطلاحية، وإنما قصدوا التنبيه إلى أهمية هذه الأعمال، وإذا تأمل المتأمل وجد أن هذه الخلال هي معقد ولب وجوهر الإيمان، وإن كانت الأعمال كثيرة، إلا أنها ترجع إلى هذا الشعبة بوجه ما من وجوه النظر، أو بتأمل ما ممن رزقه الله التأمل والتدبر.
  2. مقاصدهم في زيادة ألفاظ ليست أركاناً ولا قيوداً

    النوع الثاني: أن يزيد بعض السلف كلمة في التعريف، وهذه الزيادة ليست ركناً وليست قيداً لا بد منه، وإنما هي للإيضاح وللأهمية وللتنبيه، وأكثر ما جاء في كلام السلف من ذلك زيادةً على أن الإيمان قول وعمل قولهم: الإيمان قول وعمل ونية، وقال بعضهم: قول وعمل وموافقة السنة، وقال بعضهم: قول وعمل ونية وموافقة السنة.
    والواقع أن هذه الزيادات لا تؤثر على الإجماع ولا تتنافى مع العبارات المتقدمة، بل هي في الحقيقة داخلة فيها، ولكنها زيادة في الشرح وزيادة في الإيضاح.
    فالذين زادوا هذه الكلمات لا يقصدون أن جملة (قول وعمل) ناقصة تحتاج إلى استدراك لا يتم المعنى إلا به، وإنما أرادوا ببيان ما ذكروه التأكيد عليه، وإن كان داخلاً مندرجاً في قولهم: (قول وعمل).
    فمن ذلك أن الإمام أحمد رحمه الله -كما نقل عنه الخلال -: سئل عن الإيمان، وهو كثيراً ما يقول: الإيمان قول وعمل، وقد مر ما نقلناه في تعقيبه على كلام الفضيل ، وهو الذي أورده.
    فقيل له: ما الإيمان؟ فقال: قول وعمل ونية صادقة. فقال له بعض التلاميذ: هل لا بد من النية؟ وكأنه يقول: إنك دائماً تقول: قول وعمل، فلم أضفت النية؟ هل أردت معنى جديداً يضاف إلى ما سبق؟ فقال أحمد رحمه الله: النية متقدمة.
    فالنية في الحقيقة شرط لابد منه، فعندما يعرف الإيمان يعرف على أساس أن المشروط موجود ولابد، فإذا انتفى الشرط فلا اعتبار لأي عمل من أعمال الجوارح أو أعمال القلب؛ فإن ذكر أحد أو اشترط النية فلضرورتها ولأهميتها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات )، فالإنسان لا يخلو من أن يقول بقلبه وجوارحه، أو يعمل بقلبه وبجوارحه، فالنية شرط في ذلك، فهي متقدمة لابد منها، فإن لم تذكر فلا شيء في ذلك، وإن ذكرت فلبيان أهميتها، فلا منافاة بينهما.
    وقول الإمام أحمد : النية متقدمة كأنه يقول لتلاميذه: لا تعجبوا إن لم تجدوا العلماء أو أئمة السلف ذكروها؛ لأنها معلومة لا بد منها، وإنما قالوا: قول وعمل؛ لأنه لا بد منها، فلا يحتاج إلى أن تذكر.
  3. مقصد المتأخرين في تعريف الإيمان بما قد يوهم مخالفة السلف

    النوع الثالث: العبارات التي قد يفهم منها مخالفة السلف لتعريف الإيمان بأنه قول وعمل، وأشهر هذه العبارات وأكثرها تداولاً في الكتب هي التي تقدمت الإشارة إليها، وهي أن الإيمان: قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان.
    فهذه العبارة قد يقول قائل عنها: إنها تختلف عن تلك، مع أنها هذه جاءت عن السلف، ويبدو أن اختيار هذه العبارة عند المتأخرين لأنه ظن بعضهم أنه عندما نقول: الإيمان قول وعمل؛ فإن القول هو القول باللسان، والعمل هو عمل الجوارح، فيقول قائل: وأين الاعتقاد وما في القلب من التصديق؟! فلهذا جعلناها ثلاثة فقلنا: هو قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، حتى نحتاط ونحترز، ولا ندع مدخلاً للمرجئة ولا لغيرهم، وهذا الذي يبدو أن المتأخرين من الأئمة والعلماء نظروا إليه.
    ولا ريب في أن السلف الصالح لا يمكن أن يهملوا أعمال القلوب وهي الأساس والأصل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب )، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: [القلب ملك والأعضاء جنوده]، فهي جنوده تأتمر بأمره.
    وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله ما في تشبيه ومثال أبي هريرة من البلاغة، ثم قال: لكن العبارة النبوية أبلغ في المعنى؛ لأنها جعلت الجسد والقلب يجمعهما شيء واحد وهو الإنسان، فالإنسان حقيقته القلب والجسد، فهما مترابطان يكونان شيئاً واحداً هو الإنسان، والترابط بين أجزاء الشيء الواحد والحقيقة الواحدة أقوى من الترابط بين الملك والجنود، ففي حقيقة الأمر قد يأمر الملك بأمر ولا يطيعه بعض الجنود إما في الظاهر وإما في الباطن، ولكن ارتباط القلب بالجوارح أعمق من ذلك، فلا يمكن أن يكون شيء من الجوارح إلا تابعاً ومرتبطاً بالقلب.
    ولذا لا يمكن ولا يعقل أن يهمل السلف عمل القلب، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: [اليقين الإيمان كله]، وتكلموا في المحبة، وتكلموا في الرضا، وتكلموا في الإخلاص والنية إلى غير ذلك مما لا يمكن حصره في هذا الشأن.
    فلا يمكن ولا يتصور ولا يتخيل أن يهملوا علم القلب، ولكنهم لما قالوا: قول وعمل أرادوا قول القلب وعمل القلب مع قول اللسان وعمل الجوارح، إلا أنه لما فهم المرجئة من جهة هذا الكلام خطأ، أو ظن بعض العلماء أنه بهذا نقطع الطريق على المرجئة ، جعلت العبارة ثلاثية.
  4. بيان شيخ الإسلام ابن تيمية حقيقة اختلاف عبارات أهل السنة في تفسير الإيمان

    ولا بأس بأن نأتي بإيضاح من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على هذا الأمر، حيث يقول: (ومن هذا الباب أقوال السلف وأئمة السنة في تفسير الإيمان) يعني اختلاف العبارات مع توحد الحقيقة والمعنى.
    قال: (فتارة يقولون: هو قول وعمل ونية، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية واتباع السنة، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وكل هذا صحيح) فلا اختلاف بين هذه العبارات.
    قال: (فإذا قالوا: قول وعمل؛ فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعاً، وهذا هو المفهوم من لفظ القول والكلام ونحو ذلك إذا أطلق).
    فإذا أطلق القول -مثلاً- فقيل: (قال فلان) فإنه يشمل أمرين: أنه اعتقد ذلك ونطق به؛ لأن الأصل أن الإنسان لا ينطق بشيء إلا وهو يعتقده، أما إذا قيدت فقلت: قال بفمه كذا وإن لم تقل: لم يقل بقلبه فإن الاعتقاد غير داخل، كما قال تعالى: (( يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ))[آل عمران:167]، فلما قال (بأفواههم) ووضحه بقوله: (ما ليس في قلوبهم) علمنا أن القول الظاهر منفصل عن القول الباطن، وكذلك العكس، فلو قال أحد: قلت في نفسي فإنه يدل على ما قيد به فالقول إذا أطلق يعني قول اللسان الموافق لقول القلب.
    ثم قال رحمه الله تعالى: (والمقصود هنا أن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل أراد قول القلب واللسان وعمل اللسان والجورح) فالقول قولان والعمل عملان (ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد في القلب) أي: خشي أن يفهم ذلك، فقال: نضيف إلى هذا ذكر الاعتقاد بالقلب.
    قال: (ومن قال: قول وعمل ونية قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية)، فالقول يشمل قول القلب واللسان، ولكن العمل قد لا يفهم منه النية، فنقول: إن الإيمان قول وعمل ونية.
    والجواب عن هذا ما ذكرنا في كلام الإمام أحمد من أن النية متقدمة، فهي لابد منها، ففي قول: (لا إله إلا الله) لا بد من النية، وفي القول بالقلب لا بد من النية، وفي أي عمل لابد منها، فلا يحتاج إلى أن تذكر في كل قول وفي كل عمل من الأعمال.
    قال: (ومن زاد) أي: ومن أضاف إضافةً أخرى وهي (اتباع السنة فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة) يعني: لا يقبله الله تعالى إلا أن يكون موافقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أصل الدين العام الذي أنزله الله قاعدتان: أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، والذي بين شرع الله وأمرنا الله أن نعبده كما عبده هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل عمل خالف عمله صلى الله عليه وسلم رد غير مقبول، فاحتاج إلى أن ينبه على هذا.
    وهنا تأمل قوله صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، فكأن المقدر: ليس حاكماً عليه أمرنا، أو: آمراً عليه أمرنا، أو ليس موافقاً لما عليه أمرنا، فالمهم أن السنة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم هي الحاكمة والآمرة التي تقر أو لا تقر العمل من الأعمال، وقوله: (فهو رد) أي: مردود لا ينفع فاعله.
    قال: (وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل) يعني أن ما حكي الإجماع عليه من قولهم: الإيمان قول وعمل لم يريدوا به أي قول أو أي عمل مقبول أو غير مقبول، ومشروع أو غير مشروع، وإنما أرادوا الإيمان الذي هو الأعمال الشرعية.
    يقول: (وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، وإنما ما كان مشروعاً من الأقوال والأعمال) فهو الدين وهو الإيمان الشرعي؛ لأن كلامهم في التعريف الشرعي الديني.
    قال: (ولكن مقصودهم الرد على المرجئة الذين جعلوه قولاً فقط)، فهم أرادوا أن يردوا على من قال إن الإيمان قول فقط، فقالوا: هو قول وعمل.
    قال: (والذين جعلوه أربعة أقسام فسروا مرادهم كما سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقال: قول وعمل ونية وسنة؛ لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر) فإذا قال: أنا مؤمن ولم يعمل أي عمل من أعمال القلب أو الجوارح فهو في الحقيقة ليس بمؤمن، فهذا مجرد إقرار، وقد أقر المشركون وأقر اليهود وأقر غيرهم من الكفار بالنبوة وبالرسالة، فلم ينفعهم مجرد الإقرار؛ لأنهم لم يذعنوا ويتبعوا وينقادوا على ما سنبين إن شاء الله تعالى بعد.
    قال: (وإذاً كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق)، فإذا كان من غير إرادة وجه الله فهو نفاق مهما اجتهد المرء في العمل.
    قال: (وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة) فإذا أتى بالأقوال والأعمال لوجه الله ولكن على غير سنة فعمله بدعة، فهذا الذي أراده رحمه الله عندما أضاف احترازات لا تؤثر على أن الإيمان قول وعمل، فهو يذكر شروطاً لا بد منها.
  5. مقصد بعض العلماء في تفسير الإيمان بالإقرار والتصديق ونحو ذلك

    النوع الرابع: وهو مهم ويحتاج إلى شيء من الإيضاح، وهو أننا قد نقرأ في كتب العلماء رحمه الله أنهم لم يقولوا: قول وعمل، وإنما قالوا: إقرار وتصديق، أو: إقرار وعمل، أو: تصديق وعمل، فهذه العبارات قد توهم، والمرجئة وأهل الباطل دائماً يتبعون ما تشابه ابتغاء الفتنة، وهم الذين في قلوبهم زيغ كما ذكر الله، وهؤلاء الذين عنى الله، فقالوا: كيف يقولون مرة: قول وعمل، ومرة أخرى: إقرار وعمل، أو تصديق وعمل، أو إقرار وتصديق، وما أشبه هذا من العبارات المتضادة؟!
    فنقول: الأمر ليس كذلك، ولكن أنتم تسيئون الفهم؛ فإن للإقرار وللتصديق عند السلف وفي الكتاب والسنة معنى غير ما تظنون وغير ما تفهمون، والقاعدة المهمة في هذا التي لا يصح أن تفوت ولا أن تغيب عن ذهن أحد: أننا نرجع دائماً في فهم كلام السلف -ومن باب أولى كلام الله ورسوله- إلى نفس نصوص القرآن، فإنها يوضح بعضها بعضاً، فإن لم نجد ففي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم نجد ففي كلام السلف، ولا نحاكم الألفاظ الشرعية إلى المصطلحات الكلامية، بل ولا إلى مجرد اللغة، كما فعل ابن الباقلاني ، حيث يقول: الإيمان هو التصديق، والدليل على ذلك أن الناس ما زالوا يقولون: فلان يؤمن بالبعث، أي: يصدق بالبعث. هذا معنى كلامه في التمهيد ، ورد عليه شيخ الإسلام في الإيمان فقال: القضية ليست مجرد أن نقول: هو في اللغة هكذا، بل نحتاج دائماً في تحديد الألفاظ والمصطلحات الشرعية إلى أن نرجع إلى فهم السلف الصالح والأخذ من النصوص ذاتها، فبعضها يبين بعضا، وإن شاء الله فسنوضح معنى الإقرار ومعنى التصديق بعد توضيح الأمر الثاني، وهو معنى قولهم: (قول وعمل)، وبذلك نكون قد خرجنا بنتيجة نهائية، وهي أن عبارة (الإيمان قول وعمل) عبارة شاملة جامعة مانعة، وأنها مجمع عليها حقاً، وأن من زاد من السلف أو غير أو بدل في العبارة لا يؤثر ما صنع على هذه العبارة، وأنها العبارة المختارة التي تؤدي المعنى بأوجز وأدق ما يمكن.
    الأمر الثاني: ما معنى (قول وعمل)؟
    قد ألمحنا إلى هذا عندما ذكرنا أن المرجئة قالوا: هو قول، فجاء السلف فجعلوه قولاً وعملاً، فهل كان المرجئة الذين جادلهم وناظرهم السلف يقولون: الإيمان قول، بمعنى أنه كلام باللسان فقط؟
    إن حقيقة الأمر أن الخلاف كان أولاً في أعمال الجوارح فقط، فـالمرجئة من الفقهاء أو العلماء -كـحماد بن أبي سليمان شيخ الإمام أبي حنفية ، وكذلك أبو حنيفة - فقههم قائم على العبادات والأعمال، ففقههم عملي يبين أحكام الصلاة وأحكام الصيام والجهاد والحج والزكاة، فهؤلاء لا يمكن أن يخرجوا الأعمال من الإيمان بالكلية، لكنهم يقولون: هذه الأعمال لوازم الإيمان، ولكنها لا تدخل في حقيقة الإيمان، فهي واجبات، والمؤمن لا بد له من أن يفعلها، وإن لم يفعلها فهو معرض للعقاب، لكنها لا تدخل في حقيقة الإيمان.
    أما أعمال القلوب فلا يخرجونها، وما كان النقاش والنزاع في أعمال القلوب، فعندما قالوا: إن الإيمان قول لا يقصدون بذلك مجرد القول باللسان، بل يقصدون بذلك قول اللسان وقول القلب، ومن ثم فإن أعمال القلب الأخرى لم يكونوا ينكرونها أو يتكلمون فيها، ولهذا نلزمهم فنقول: إن كنتم تدخلون أعمال القلب في الإيمان فلا بد من إدخال أعمال الجوارح، وهذا الذي نظنه بالعلماء المتقدمين، لكن المتأخرين نقول لهم: أنتم بين أمرين، فإن أخرجتم أعمال القلب ولم تدخلوها فقد أصبحتم من الجهمية ، أي: من المرجئة الغلاة لا ممن يخرج أعمال الجوارح، وهذه المسألة ستتضح فيما بعد، لكن المقصود بيان أن الخلاف كان في أعمال الجوارح، بمعنى أن أعمال القلب لم تكن موضع جدل ولا موضع نزاع حتى عند المرجئة الأولين إلى أن ظهر جهم ، فالذي ابتدع هذه البدعة وأظهرها هم الجهمية وقد نبذهم المرجئة الفقهاء كما نبذهم السلف من أهل السنة ، لكن في النهاية نجد أن المتأخرين من الحنفية ومن الشافعية -أي: الماتريدية و الأشاعرة - يقولون: إن الإيمان هو مجرد التصديق فقط، وبهذا خرجوا حتى عما كان يقول به أئمتهم.
    فالمقصود هنا أن قول السلف الصالح: إن الدين قول وعمل يعنون به الأركان الأربعة، فالقول قولان، والعمل عملان، ويجتمع ذلك في كلمتين: إقرار وانقياد، فلا يكفي الإقرار دون الانقياد، أو: إقرار وامتثال، والإقرار من غير امتثال لا ينفع، والامتثال يكون بالقلب وبالجوارح، وقد نقول: اعتقاد وتنفيذ.
    والحاصل أن معنى (قول وعمل): أنك تحقق وتصدق وتذعن بأعمالك القلبية وأعمال الجوارح لما تقول إنك مقر به، وهذا هو المعنى البدهي والظاهر الذي يجب أن يفهم عليه كلام السلف رضوان الله عليهم.
    لكن المرجئة عندما قالوا: إن الإيمان قول فقط أخرجوا الأعمال، فالأولون منهم أخرجوا أعمال الجوارح، أما عمل القلب فلم يتكلموا فيه، وأول من أخرج أعمال القلوب هو الجهم ، وقد ابتدع بدعة أنكرها عليه الطائفتان كلتاهما؛ لأنه قال: إن الإيمان هو مجرد المعرفة بالقلب.
    ولو عدنا إلى مبحث النبوات وبم تثبت النبوة عند المتكلمين ومنهم المرجئة وغيرهم لوجدنا أن جهماً بلغ الذروة في الغلو فيما يحصل به الإيمان بالنبي، فحين يأتي النبي إلى قومه بالمعجزة الدالة على إثبات نبوته فإن بعضهم يقول: آمنت واتبعت، فيكون هذا مؤمناً من الأتباع، وبعضهم يكذب بها، ويقول: هذه ليست آية ولا معجزة، بل سحر، وهذا يكون كافراً، وأما الصنف الثالث فهو الذي رأى الآية فقال في قلبه: هذا النبي صادق.
    ثم يقول جهم : هذا عرف الله وعرف النبي، فهو أيضاً مؤمن! وقد جاء بعده من حاول أن يقول: هذا مؤمن إلا أنه عاص؛ لأنه لم ينطق ولم يقل للنبي: أنا مؤمن! ولا شك في أن هذه الافتراضات خطأ، فتصور القضية خطأ، وكذلك افتراض النتيجة كان خطأ؛ فإن الله لم يبعث الرسل ليقولوا للناس: إننا أنبياء، فمن عرفنا على الحق فقد آمن، إنما قال تعالى: (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ))[البينة:5] أي: إيمان قلبي وإيمان عملي بأداء الفرائض، وهذا الذي أمر به أهل الكتاب من الأمم الأخرى أيضاً.
    ثم جاء بعد الجهم الصالحي ، ثم نقل ذلك وأخذه أبو الحسن الأشعري وانتصر له، ثم أصبح مذهب الأشاعرة ، ولكنهم بدلاً من أن يقولوا: إن الإيمان هو المعرفة كما قال جهم ، قالوا: هو التصديق، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- بيان خطأ هذا القول والفرق بينه وبين المعرفة.
  6. بيان شيخ الإسلام في معنى قول القلب وأقسام أهله فيه

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا: (أجمع السلف أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ومعنى ذلك أنه قول القلب وعمل القلب، ثم قول اللسان وعمل الجوارح، فأما قول القلب فهو التصديق الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويدخل فيه الإيمان بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم)، كالميزان والصراط وعذاب القبر ونعيمه وأشراط الساعة، وسائر المغيبات التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم.
    فقول القلب هو الإقرار بها والتصديق الجازم بها؛ لأن بعض العقائد هي عقائد علمية، ولهذا يقال: اعتقادية أو علمية أو خبرية، بمعنى أنه لا يترتب عليها عمل، فالمكلف نقول له: يجب عليك أن تؤمن بأنه في آخر الزمان سوف ينزل عيسى عليه السلام، ولا نطلب منك عملاً تعمله، وإنما نطلب منك الإقرار والتصديق الجازم، بحيث تقول: ما دام أنه قد جاء الوحي بذلك فأنا مؤمن به ولا أكذب به، وفي هذه الحالة تكون قد أتيت بالإيمان المطلوب؛ لأن المطلوب منك هو أن تقر وأن توقن بذلك.
    فإن قيل لك: إن الله افترض عليك الجهاد أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، فهنا يجب عليك أن تقول: أنا مقر بذلك ويلزمك العمل؛ لأن ذلك من عمل الجوارح.
    فـشيخ الإسلام يريد أن يوضح أن قول القلب هو التصديق الجازم، فما كان من أمور علمية اعتقادية فحسبك أن تأتي به اعتقاداً، وما كان من أمور عملية فلا بد من أن تأتي به اعتقاداً وزيادة على ذلك تأتي بالعمل، فتنفذه وتمتثله.
    قال رحمه الله تعالى: (ثم الناس في هذا على أقسام) وهذا التقسيم مهم جداً إذا قلنا: إن الدين قول وعمل، فهل كل المؤمنين الذي يقولون هذا هم في درجة واحدة في الإتيان به؟!
    يقول: (منهم من صدق به جملة ولم يعرف التفصيل) وهذا أحد أسباب التفاضل بين المنتسبين إلى الإيمان، فبعضهم آمن وصدق جملة ولم يعرف التفصيل، وهذا حال كثير من العوام المسلمين اليوم، يقول المرء منهم: أنا مؤمن بكل ما أخبر الله به، وأنا مؤمن بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فلو سمع حديثاً، أو حضر خطبة فسمع الخطيب يقول: قال الله أو قال رسول الله، وجاء بشيء جديد آمن به بناءً على القاعدة الإجمالية التي قد أقر بها من قبل.
    القسم الثاني: (من صدق جملة وتفصيلاً)، يعني: عرف كل ذلك فآمن به إيماناً كلياً إجمالياً، وإيماناً تفصيلياً، وهذا القسم قليل، وهم الراسخون في العلم، وبينهم درجات متفاوتة.
    قال: (ثم منهم من يدوم استحضاره لهذا التصديق) وهذا وجه من أوجه التفاوت، فبعض العوام عنده الإيمان المجمل، لكنه دائم الاستحضار له، فهو يذكر الله دائماً ويسبح ويطيع، فهذا الإيمان المجمل موجود وحي في قلبه، وهناك من يغفل وينقطع ويضعف ويفتر إيمانه المجمل.
    وكذلك الإيمان المفصل، فبعض الناس يبلغ به الإيمان إلى حالات عالية عظيمة جداً، وأحياناً يضعف أو ينقطع بعض ذلك.
    قال: (ومنهم من يذهل أو يغفل، ومنهم من استبصر فيه بما قذف الله في قلبه من النور والإيمان، ومنهم من جزم به لدليل قد تعترض فيه شبهة أو تقليد جازم).
    يعني أن منهم أيضاً من يجزم بدليل، لكن الدليل قد تعترض عليه شبهة، أو أنه قلد تقليداً جازماً، وهذا رد منه على من يقول: إن الإيمان لا بد من أن يكون عن نظر عقلي.
    فلو قرأت في بعض كتب علم الكلام، وبعض كتب الأشاعرة حتى المعاصرين تجد فيها أن منهم من يقول: لا بد من أن ينظر العامي ولو مرة واحدة، ويقول: إن النظر واجب على المكلف ولو مرة واحدة في العمر، فيقول: هذا العالم محدث، وكل محدث لا بد له من مُحدِث، والمحدث هو الله، إذاً آمنت! يقولون: وإن لم يفعل كان إيمانه مجرد تقليد.
    ونقول: لا، بل التقليد الجازم قد يكون سبباً من أسباب الإيمان، وهو في حقيقته اتباع، فلو أن رجلاً أخذ بعض ما جاء عن بعض الصحابة أو التابعين على اعتقاد ويقين ثقة منه واتباعاً لأنه يعلم أن هذا متبع لما جاء من عند الله لا يكون مقلداً؛ لأنه عرف أنه لم يأخذ إلا ممن أخذ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا سيما إذا أخذ ذلك عن الصحابة أو التابعين؛ لعلمه أن التابعين أخذوا عن الصحابة، فهذا ليس تقليداً، وإنما هو في الحقيقة اتباع، وهذا الاتباع موافق للفطرة وللعقل، فلا يقال: إنه لا نظر فيه ولا تفكر ولا استدلال؛ لأن الناس قد تستدل بهذه الطريقة التي ذكرتم وقد لا تحتاج إليها، فبعض الناس لا يحتاج إلى أن يقال له: هل فكرت وهل استدللت؟ فالأعرابي قال: (البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير)، فهذا لا يحتاج إلى تفكير، ولا يحتاج إلى أن يقول: إني وجدت بعرة، فلا بد من أن بعيراً قد مشى! فهو يعلم أن بعيراً قد سار بالبداهة والفطرة، وفطرة العرب هي أقوى وأصح في الاستدلال بدون مقدمات ونتائج على الطريقة المنطقة اليونانية الفلسفية، فقد كانوا يستطيعون أن يصلوا إلى الحقائق بأفضل السبل والبداهة والذكاء المتوقد الحاضر، ولذا كان أذكى الناس وأفهم الناس وأعقل الناس صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  7. ما يتبع تصديق القلب من العمل

    يقول: (وهذا التصديق يتبعه عمل القلب)، فالإيمان المجمل أو المفصل يتبعه عمل القلب، (وهو حب الله ورسوله، وتعظيم الله ورسوله، وتعزيز الرسول وتوقيره، وخشية الله والإنابة إليه والإخلاص له والتوكل عليه، إلى غير ذلك من الأحوال)، يعني: يجب على من آمن وصدق أن يتبع ذلك بهذه الأعمال القلبية التي لا بد منها.
    يقول: (فهذه الأعمال القلبية كلها من الإيمان، وهي مما يوجبها التصديق والاعتقاد، وإيجاب العلة المعلول) أي: كما أن العلة والمعلول متلازمان ولا بد، فحيث توجد العلة يوجد معلولها بدون أدنى شك؛ فكذلك إذا وجد هذا لابد من أن يوجد ذلك.
    قال: (ويتبع الاعتقاد قول اللسان، ويتبع عمل القلب عمل الجوارح)، فإذا اعتقد الإنسان بقلبه شيئاً فلا بد من أن يقوله، وإذا وجد عنده عمل القلب فلا بد من أن يعمل بجوارحه، كالصلاة والزكاة والصوم والحج.
    ولو أننا أخذنا في تفصيل هذا من أمثلة القرآن أو من واقع حياة الناس الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا أن هناك أقواماً لم يأتوا بشيء من الإيمان، لا القول ولا العمل، وهم الذين كذبوا ظاهراً وباطناً، ولم يؤمنوا بشيء مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فليسوا من أهل الإيمان مطلقاً، وأمرهم ظاهر.
    ولكن لو أن رجلاً أتى بالتصديق القلبي فقط، أي: علم في قلبه وصدق بقلبه أن هذا الدين حق وأن هذا النبي حق، دون أن يقول بلسانه ولا يعمل بجوارحه، فهذا كافر لا شك فيه، ومثاله فرعون لعنه الله، وهو أكبر الفجرة والكفرة، وأكثر من ذكره الله في القرآن بالكفر والطغيان، ومع هذا يقول الله عنه وعن قومه: (( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ))[النمل:14]، فما نفعه أنه يعلم بقلبه، ولهذا قال له موسى عليه السلام: (( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ))[الإسراء:102]، يقول: أنت تعلم -يا فرعون - أن هذا حق، وأن الله قد بعثني به، وأنه من عند الله.
    هكذا أخبر الله عنه أنه في قلبه موقن بأن موسى عليه السلام صادق، وما نفعه ذلك في شيء حين لم يأت بالثلاثة الأركان الباقية.
    وهذا فيه رد واضح على الجهم وغيره في حكمه بالإيمان لمن رأى النبي وعرف في قلبه أنه صادق، فأين الانقياد والإذعان والمتابعة؟! فمن أتى بمجرد المعرفة بالقلب أو العلم بقلبه، ولكنه لم يذعن ولم ينقد، لا يعد مؤمناً.
    ولو أن أحداً قال بلسانه: أنا مؤمن، أو قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ولكنه غير مقر بقلبه ولم يعمل بجوارحه؛ فإنه يعد منافقاً نفاقاً أكبر، كما قال تعالى: (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ))[البقرة:8-9]، ففي القرآن ما يدل على أن من قال: آمنت بالله وباليوم الآخر بلسانه والقلب يكذب ذلك فإنه يعد كافراً كفراً أكبر، وهذا القول إنما هو نفاق وكذب ومخادعة.
    وقد قال تعالى: (( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ))[المنافقون:1]، كانوا يسمعون أن الناس يدخلون في الإيمان بقول: (أشهد أن لا إله إلا الله) فيأتون ويقولون: نشهد -يا محمد- أنك رسول الله، فالله تعالى كذبهم وبين أن هذه الشهادة كاذبة ولو قالها قائلها باللسان ما دام لم يقر بقلبه.
    وحتى تتضح الصورة نقول: هل كان كفار قريش الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وسلم في بدر و أحد و حنين يعتقدون في قلوبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كاذب مفتر؟!
    لقد أجاب الله تعالى عن ذلك فقال: (( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ))[الأنعام:33].
    فإن قيل: كيف نجمع بين هذه الآية وبين ما أتى في آيات كثيرة أنهم كذبوه، كقوله تعالى: (( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ))[فاطر:4]، (( فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ))[غافر:24]؟
    فالجواب أن قوله تعالى: (( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ))[الأنعام:33] أي: لا يعتقدون كذبك، ولكن ينسبونك إلى الكذب، وما كان عندهم شك في ذلك، فقد كانوا في ندواتهم ومجالسهم الخاصة يتحدث بعضهم إلى بعض بأن هذا نبي، بل كان بعضهم يذهب ليستمع القرآن، وكثير من أحوالهم دال على إقرارهم.
    فالله تعالى يقول: (( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ))[الأنعام:33] جحود مكابرة، هذا حال كفار قريش.
    وأما أهل الكتاب فحالهم أعجب؛ لأنهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا في الجاهلية فيقولون: يا معشر الأوس، يا معشر الخزرج، يا أيها العرب! سوف يخرج نبي في آخر الزمان وسوف ننتصر به عليكم ونقاتلكم، (( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ))[البقرة:89]، حتى إن رجلاً منهم صعد على الرابية وأخذ يقول: يا بني قيلة! هذا صاحبكم، ولهذا قال الله: (( يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ))[البقرة:146]، وأوضح معرفة يمكن أن يتخيلها الإنسان معرفة الابن، فيمكن أن يخطئ الإنسان أو يتردد في تحديد صديق مثلاً، أما الابن فلا يخطئ فيه، فكيف بالذين هم في غاية الدهاء والمكر والتعمق من أهل الكتاب الذين كانوا يقرءون ويفصلون في كل أمر، فعرفوا النبي بصفاته الدقيقة، كما في حديث سلمان أنهم أخبروه بخاتم النبوة أنه بين كتفيه! فقد تخالط كثيراً من الناس، وقد يكون المخالط أباك أو أخاك ولا يسبق لك أنك رأيت ظهره أو كتفه، فكيف اطلعوا على هذه الأمور الدقيقة؟!
    فالله تعالى أقام الحجة عليهم وهم يعلمونهما، ومع ذلك كفروا، بل كانوا أول كافر به.
    النوع الثالث: أن يأتي الإنسان ويقر بلسانه ويقر بقلبه، ولكن لا يتبع ولا يذعن، فهنا يكون كافراً في حقيقته.
    كما في خبر الحبرين من اليهود الذي ذكره الإمام أحمد و النسائي ، حيث قال أحدهما للآخر: ( انطلق بنا إلى هذا النبي ) فتذكر الآخر أنهم قد وضع لهم حد، وهو أنهم لا يقولون: إنه نبي، فقال: ( لا تقل هذا؛ فإنه لو سمعها كان له أربع أعين )، يفتخر بأننا اعترفنا بنبوته فانطلقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه عن قول الله تعالى: (( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ))[الإسراء:101] ما هي؟ فعدل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجواب إلى الوصايا العشر، فقال: ( ما نبي بعثه الله إلا قال: (( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ))[الأنعام:151] ) فلم يستطيعا أن يقولا: هذه هي الوصايا العشر، وليست الآيات التسع، لأنهما علما أنه فقه وأطلعه الله على مرادهما، فقالا: نشهد أنك نبي. فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما يمنعكما أن تتبعاني ) فقالا: إن الله قد أخذ العهد أن لا يزال في ذرية داود نبي. أي: كيف وأنت تقول: إنك آخر الأنبياء وأنت من ذرية إسماعيل من العرب، ولست من ذرية داود، فلا يمكن أن نتبعك.
    وفي الرواية الأخرى قالا: إنا نخشى أن نؤمن بك فتقتلنا يهود ، فذهبا من عنده.
    فالشاهد أنهما أقرا بألسنتهما، فحصل القول عندهما، وهو قول القلب، لكن لم يحصل منهما عمل القلب ولا عمل الجوارح، وما اعتبرا أنفسهما مؤمنين، ولا النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة اعتبروا هذا إيماناً.
    وهذه مسألة مهمة جداً، فنحن في آخر الزمان، يأتي الرجل فيقول: أنا مسلم أشهد أن لا إله إلا الله، وفي قلبه مصدق بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، ولكن لا انقياد ولا إذعان ولا إخلاص ولا يقين ولا توكل ولا رغبة ولا رهبة، ولا صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج ولا أمر بالمعروف، ولا نهي عن المنكر، ويقول: أنا مسلم، فما الفرق بينه وبين هذين الحبرين؟!
    فهذه الحالة الثالثة تشبهها حالة أبي طالب القائل:
    ولقد علمت بأن دين محمد            من خير أديان البرية دينا
    لولا الملامة أو حذار مسبة             لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
    فما أباح، لكنه يعلم أن هذا دين حق، وعند الموت عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كله، فقال: ( يا عم! قل كلمة أحاج لك بها عند الله ) فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب . فمات على غير ملة الإسلام.
    فمن هنا أجمع أهلة ملة الإسلام على أن من لم يأت بالشهادتين ولم ينطق بهما مع القدرة فليس بمؤمن لا ظاهراً ولا باطناً، ولا يجري علي شيء من أحكام الإسلام لا في الدنيا ولا في الآخرة.
    وأما الحالة الرابعة فحالة من صدق بقلبه وأقر بلسانه وعمل بقلبه وجوارحه، فهذا هو المؤمن حقاً، وهؤلاء يتفاوتون في درجات الإيمان ويتفاضلون في أعماله كما بين الله، وبهذا نكون قد عرفنا الأقسام الأربعة، ومعنى قول السلف: إنه قول وعمل.
    هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.