ولا بأس بأن نأتي بإيضاح من كلام شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله على هذا الأمر، حيث يقول: (ومن هذا الباب أقوال السلف وأئمة السنة في تفسير الإيمان) يعني اختلاف العبارات مع توحد الحقيقة والمعنى. قال: (فتارة يقولون: هو قول وعمل ونية، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية واتباع السنة، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وكل هذا صحيح) فلا اختلاف بين هذه العبارات. قال: (فإذا قالوا: قول وعمل؛ فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعاً، وهذا هو المفهوم من لفظ القول والكلام ونحو ذلك إذا أطلق).فإذا أطلق القول -مثلاً- فقيل: (قال فلان) فإنه يشمل أمرين: أنه اعتقد ذلك ونطق به؛ لأن الأصل أن الإنسان لا ينطق بشيء إلا وهو يعتقده، أما إذا قيدت فقلت: قال بفمه كذا وإن لم تقل: لم يقل بقلبه فإن الاعتقاد غير داخل، كما قال تعالى: ((
يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ))[آل عمران:167]، فلما قال (بأفواههم) ووضحه بقوله: (ما ليس في قلوبهم) علمنا أن القول الظاهر منفصل عن القول الباطن، وكذلك العكس، فلو قال أحد: قلت في نفسي فإنه يدل على ما قيد به فالقول إذا أطلق يعني قول اللسان الموافق لقول القلب. ثم قال رحمه الله تعالى: (والمقصود هنا أن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل أراد قول القلب واللسان وعمل اللسان والجورح) فالقول قولان والعمل عملان (ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد في القلب) أي: خشي أن يفهم ذلك، فقال: نضيف إلى هذا ذكر الاعتقاد بالقلب. قال: (ومن قال: قول وعمل ونية قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية)، فالقول يشمل قول القلب واللسان، ولكن العمل قد لا يفهم منه النية، فنقول: إن الإيمان قول وعمل ونية.والجواب عن هذا ما ذكرنا في كلام الإمام
أحمد من أن النية متقدمة، فهي لابد منها، ففي قول: (لا إله إلا الله) لا بد من النية، وفي القول بالقلب لا بد من النية، وفي أي عمل لابد منها، فلا يحتاج إلى أن تذكر في كل قول وفي كل عمل من الأعمال. قال: (ومن زاد) أي: ومن أضاف إضافةً أخرى وهي (اتباع السنة فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة) يعني: لا يقبله الله تعالى إلا أن يكون موافقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن
أصل الدين العام الذي أنزله الله قاعدتان: أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، والذي بين شرع الله وأمرنا الله أن نعبده كما عبده هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل عمل خالف عمله صلى الله عليه وسلم رد غير مقبول، فاحتاج إلى أن ينبه على هذا. وهنا تأمل قوله صلى الله عليه وسلم: (
من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، فكأن المقدر: ليس حاكماً عليه أمرنا، أو: آمراً عليه أمرنا، أو ليس موافقاً لما عليه أمرنا، فالمهم أن السنة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم هي الحاكمة والآمرة التي تقر أو لا تقر العمل من الأعمال، وقوله: (فهو رد) أي: مردود لا ينفع فاعله. قال: (وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل) يعني أن ما حكي الإجماع عليه من قولهم: الإيمان قول وعمل لم يريدوا به أي قول أو أي عمل مقبول أو غير مقبول، ومشروع أو غير مشروع، وإنما أرادوا الإيمان الذي هو الأعمال الشرعية. يقول: (وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، وإنما ما كان مشروعاً من الأقوال والأعمال) فهو الدين وهو الإيمان الشرعي؛ لأن كلامهم في التعريف الشرعي الديني. قال: (ولكن مقصودهم الرد على
المرجئة الذين جعلوه قولاً فقط)، فهم أرادوا أن يردوا على من قال إن الإيمان قول فقط، فقالوا: هو قول وعمل. قال: (والذين جعلوه أربعة أقسام فسروا مرادهم كما سئل
سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقال: قول وعمل ونية وسنة؛ لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر) فإذا قال: أنا مؤمن ولم يعمل أي عمل من أعمال القلب أو الجوارح فهو في الحقيقة ليس بمؤمن، فهذا مجرد إقرار، وقد أقر المشركون وأقر
اليهود وأقر غيرهم من الكفار بالنبوة وبالرسالة، فلم ينفعهم مجرد الإقرار؛ لأنهم لم يذعنوا ويتبعوا وينقادوا على ما سنبين إن شاء الله تعالى بعد. قال: (وإذاً كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق)، فإذا كان من غير إرادة وجه الله فهو نفاق مهما اجتهد المرء في العمل. قال: (وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة) فإذا أتى بالأقوال والأعمال لوجه الله ولكن على غير سنة فعمله بدعة، فهذا الذي أراده رحمه الله عندما أضاف احترازات لا تؤثر على أن الإيمان قول وعمل، فهو يذكر شروطاً لا بد منها.